وديع فلسطين في مئويته: الأديبُ من أين يبدأ؟

11 أكتوبر 2022
وديع فلسطين
+ الخط -

هذا كتابُ احتفاءٍ وتكريم، وما أسعد الأديبَ حين يُكرَّم وهو لا يزال حاضرًا بَين ذويه، بموفور الصّحة وتمام الوعي، الوعيِ بأنّ الآخرين يُقدِّرون ما نهض به من أعباء الكتابة طيلة عقودٍ. المُحتفى به من خلال كتاب "الأديب من أين يبدأ؟" هو وديع فلسطين (1922)، الصحافي والأديب المصري. والمناسبة: بلوغُه قرنًا كاملًا من الزمن، قضّاه في التأليف والتفكير والتنوير.

ويتمثّل التكريم في انتقاء مجموعة مقالاتٍ قصيرة ــ واختيارُ الإنسان قطعةٌ من كَبده ــ سَبَق لهذا الكاتب أن نشرها قبل ستّ سنواتٍ في مجلّة "ألف"، التي تُصدِرها "الجامعة الأميركية بالقاهرة"، في قسم اللغة الإنكليزية والأدب المقارَن. إلّا أنّ هذه المقالات التي نُشرت آنذاك لم تَسِر بين الناس، فظلّت محصورةً في نطاق هذه النشريّة الجامعية. ولذلك ارتأت "دار الجديد" في بيروت، وهي القائمة بهذا التكريم والمبادِرَة به، أن تعيد نَشرها لتعمّ الجمهور فائِدتُها ويسير بين الناس ألقُها.

هذا النص أقربُ إلى سيرة ذاتيّة تتوزّع إلى فقرات متفاوتة الحجم، لا تعكس مراحل حياة صاحبها عبر خطٍّ زمنيّ مسترسل، ولا عبر ترابُط منطقيّ ينظّم الأحداث المرويّة، وإنّما هي شَذرات مُتفرّقة تستعيد أهمّ المحطّات التي مرّ بها هذا الأديب المصري، المولود في مُحافظة سوهاج لعائلة قبطيّة... قبل عَشرة عقود. وفي ثنايا هذه المقالات الشذَرية، يجد القارئ طُرَفًا من سيرة هذا الكاتب وطفولته وبداياته المتردّدة في عالَم الأدب، وأحداثٌ أُخرى يَرويها بلسان الإيجاز عائدًا عبرها إلى الماضي البعيد يسترجع تلك الوقائع التي أثّرت في قدره إنسانًا وصَحافيًّا.

حاز سبْق التعريف بنجيب محفوظ في مطلع الأربعينيات

طيّ هذا السرد الجادّ، لم يمتنع وديع فلسطين من تضمين نِكاتٍ وبثّ دُعاباتٍ فيها انتقادٌ من طرفٍ خفيٍّ لعصره، في تقليدٍ راسخٍ لروح الدُّعابة التي لازمت أدباء مصر، كأنّها جزءٌ لا ينفصل من شخصيّاتهم، ومنها تلك الصفحات المضحكة التي تحكي علاقات الأدباء بالأحذية. ومنها أيضًا ذاك الالتباس الدائم الحاصل بسبب اسمه: "فلسطين"، والذي جرَّ عليه الكثير من المتاعب، فقد كان يُعتبَر، وبشكل يكاد يكون آليًّا، "ضيفًا فلسطينيًّا شرّف مصر بمقدَمه".

ومن الطرائف أيضًا أنّه ترجم لطه حسين عن الإنكليزية خلال لقاء جمعه مع أستاذ أميركي، وآخر مع الكاتب والناشطة الأميركية هيلين كيلر (1880 - 1968)، فكان ينقل إلى الإنكليزيّة ما يقال فتتلقّفه مساعدتُها وتترجمُه لها بلغة الإشارات. ومن أظرف هذه المفاجآت صُدور ترجمة له بعد سبعة وخمسين عامًا من إنجازها، فقد توفّي الأمير الذي طلب تلك الترجمة، ثم عُثرَ عليها بعد وفاته في أوراقِه صُدفةً، فَطُلب من وديع فلسطين، الذي وُجِد اسمُه مكتوبًا على الظّرف، أن يصحّحها ويقدّم لها بتمهيدٍ، وهو ما فَعَله.

إلاّ أنّ هذا الماضي لم يكنْ كلّه دُعابات وسعادة، بل تخلّلته مراراتٌ وخيباتٌ حكاها الكاتب بشيءٍ من الوجع النبيل الذي نستشفُّه بين السطور، مثل حرمانه، في دورتَين، من عضويّة "مَجمع اللغة العربية" بمصر، فقط لعدم حصول النّصاب القانوني! ومن المفاجآت التي أعلن عنها بشيء من المرارة أيضًا تلك الكُتب التي ألّفها من دون أن تحمل اسمه الصريح، إما لأنّه كتبها تَقيّةً بأسماء مُستعارَة، وإمّا لأّنه صاغها لغيره، بدافع الحاجة. وقد سرد تلك الأحداث الماضية لا ليعطي دروسًا في الأخلاق، وإنّما ليدفع القارئ إلى فهم الماضي والحاضر حتى يستشرف المستقبل بوعي أدقّ.

الصورة
غلاف وديع فلسطين

وفي هذا النصّ - الشهادة عَودٌ تأمُّلي إلى خيارات الحياة الكبرى، فَهو يَرسم مثلاً "نَدمًا" على مَقالاته السياسيّة التي ابتدأ بها مشوارَهُ الصحافيّ، في أربعينيات القَرن المنصرم، مؤكّدًا أنّها فَقَدت اليوم كلَّ قيمتها، "لأنّ السّياسة بقضاياها دائمة التغيّر". وفي المقابل، يفتخر وديع فلسطين ــ وحُقّ له هذا الفخار ــ بأنّه هو مَن حاز سبْق التعريف بالأديب نجيب محفوظ، سنة 1943، حين كان هذا الكاتب وقتها مغمورًا، يبحث عن دَربِه بين مسالك الإبداع المُلتوية. ومن أسباب فخره أيضًا تحويلُه مجلة "قافلة الزيت" من مجرّد دوريّة تهتمُّ بأخبار شركة "أرامكو" النفطيّة ومُوظّفيها إلى نشريّة ثقافيّة، استكتب فيها كبارَ المؤلّفين والأدباء في الوطن العربيّ آنذاك، مثل عبّاس محمود العقّاد، ومحمود تيمور، ومحمّد منصور وغيرهم، فصارت من أرقى المجلاّت مُستوًى في زمنها.

ومن دواعي فخاره أيضًا أنّه مِن أوائل مَن خَصّص مقالاتٍ لإظهار نجاحات النساء وتفوّقهن حين استعرض سِيَر مَن نبغ منهنّ: الأديبة والفنّانة التشكيليّة ومُضيفة الطيران وعازفة البيانو... وذلك في تحديث لـ"موسوعات الأعلام" التي خرجت من منطق "الطبقات والتراجم"، بسمتها الذكوريّة لتَنفتح على تغيّرات المجتمع العميقة التي باتت بمقتضاها المرأة شخصيّة فاعلة، تستأهل أن تُمحَّض لها الموارد، تمامًا مثل الرجال، دون عُقدٍ، ضمن نِضالٍ نسويّ صادق، بعيدٍ عن زائف الشّعارات.   

فكأنَّ هذا الرجل، بما يحملُه من وثائق ورسائل ومؤلّفات، متحفٌ حيٌّ متنقّل، يُخفي في طيّاته شيئًا أكبر من الذكرى وأجمل من الماضي، شيئًا يقربُ إلى التأريخ الثقافي للحيوية الفكرية والأدبية في مصر، وفي العالم العربي عمومًا، خلال النصف الثاني من القرن العشرين بما شهده من تحوّلات وانعطافاتٍ شملت التنظيم السياسيَّ وتيّارات الأدب وأسلوب التعبير.

وهكذا، يندرج هذا النصّ في باب الشهادة الذاتية التي يُجريها الكاتب على ذاته، استعادةً لما مرّ به من تجارب وأحاسيس. هذا الجنس الأدبي صعبٌ لأنه يقتضي اتّخاذَ مسافةٍ مع الذات لجعلها مادّةً للتأمُّل والاستعادة، فتصبح هي موضوع النظر وفاعله في الوقت نفسه. ولكن هذه الشهادة، وقد كُتبت بهذا الأسلوب الصافي، الجامع بين الوضوح الصحافي والجزالة الأدبية، جعلها قريبةً من نصوص الشعر الحالمة، تلك التي تحمل القارئ إلى أجواء بعيدة: حياة الصحافيين العرب بين العواصم، وخمسينيات القرن الماضي، بما تخلّلها من صراعات وحزازاتٍ، من نَجاح وخَيبات.

خرج من منطق "الطبقات" بسمتها الذكوريّة مترجماً للنساء

وبذلك تَرشُح هذه الشهادة بقيمةٍ إنسانيّة حيّة عبر التّوثيق لتلك المرحلة وتسجيل خَصائصها العامّة وطرائفها الباسمة، حين كان الصحافي يطوف على زملائه مساءً ليجمعَ المقالات المخطوطة، وحين كانت الندوات الثقافيّة من القلّة بحيث يمكن شهودُها جميعًا، وكان يسمح للصّحافيين بلقاء كبار العلماء والأدباء دون سابق إعلام... 

وكأنّ ما رواه وديع فلسطين ينتمي إلى زمنٍ بعيد جدًّا، وما هو كذلك حين يَستعيدُه هذا الأديب في نصّ مؤثّر وقوي، تبثّه للقرّاء "دار الجديد" بما دأبَت عليه من خدمة هؤلاء الكتّاب المتميّزين، في إطار التزامها بتكريم مَن كان لهم يَدٌ في نشر الثقافة العالميّة، بعيدًا عن السطحية.

وديع فلسطين هو وجه آخَر مِن مُثقّفي الوطن العربي الذين طالما هُمّشوا وتُنوسوا. وما أسعدَ الكاتبَ حين يُكرّم في حياته بنصٍّ، هو من نَحْت قلمه الشاب دائمًا، وإن بلغَ صاحِبُه المئةَ من السنين.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون