من أنسليم كيفر إلى بول تسيلان: غرباء في وليمة الفاشية

من أنسليم كيفر إلى بول تسيلان: غرباء في وليمة الفاشية

12 يناير 2022
زوّار أمام أحد أعمال أنسليم كيفر (من المعرض، Getty)
+ الخط -

كتبَ بول تسيلان: "لا أحد يشهد للشاهد"، "أبيض ما يدوم لي. أبيض ما أخسر". كان في بداياته قد كتب عن اثنين يتحابّان مثل خشخاش وذاكرة، وينامان "نومَ النبيذ في المحارات/ نومَ البحر في شعاع القمر الدامي". تقلّصت قصائده في نهاية تطوافه بين اللغات؛ لم يبقَ للرومانيّ في منفاه الفرنسي إلّا كلمات ألمانية قليلة أو أشطار كلمات. هيمنَ التردّد شاملاً كلّ شيء في اللغة، حتّى حرف الجرّ وعلامة الترقيم. لعلّ الحذف المتواصل أحد هواجس تسيلان الذي ظلّ يمحو الشعريّة عن الشعر؛ لعل اختفاء الشاعر من قصيدته طريقةٌ أخرى في الظهور هي الأشقّ.

يُهدي الفنّان الألماني أنسليم كيفر (1945) معرضه الباريسي الأخير إلى بول تسيلان (اختُتم أمس في "القصر الكبير المؤقّت" بباريس): أعمال ضخمة، لوحات وتجهيزات داكنات يناهز ارتفاع بعضها عشرة أمتار. ربّما جرى توزيعها في فضاء القاعات، الفسيحة، عالية السقوف، خافتة الإنارة، ليتخيّل الزائر نفسه متنزّهاً داخل مقبرة التاريخ الواسعة، اختفت الحدود بين قبورها، وشواهد الموتى هي هذه الأنصاب يناورها الزوّار كأنهم في متاهة.

إلغاء التفنّن لدى كيفر يأخذ منحى البروز، على الضدّ من تلاشيات تسيلان. الفنّان صانعُ أطلال تُدوّخ الناظرين بعليائها وشموخها، وربّما تهدّدهم بالانهيار فوق رؤوسهم. إنه سلطان الصانعين، مساحاته مغطّاة بطبقات من الطلاءات والصّلصال والرمل والزفت والأشياء الميتة، يقتلع بالفأس والسكّين أشكالاً من جلد لوحته، الثخين كقشور الجراح المضمّدة، أو يحشو بدلات العمّال والجنود بباقاتٍ من السنابل ويعلّقها بالمشاجب إلى سور مهدّم، أو يعلّق زهرة خشخاش رفيعة طويلة، وحيدة في سماء الليل، أو فردات أحذية وصنادل معفّرة بغبار الخرائب، التصقت بأقواس المجرّات وقد غاب أصحابها، ومن حولها تحوم ذرات تبن بين النجوم.

لم تتوقّف الحرب، "بشائرُها" تُطلّ عبر أرجاء أوروبا

دوّن كيفر كلمات كثيرة على سطوح أعماله كخطوط بالطباشير على قماش الحداد. الفنّان الإمبراطور، سليل الضابط في الجيش النازي، يسكن، منذ ثلاثة عقود، في جنوب فرنسا التي أكرمت وفادته، ولا يزال منذ ستّة عقود مسكوناً بضدّه، الشاعر الصامت، تسيلان الآسر في ضعفه ودقّته وإقلاله، سليل الأبوين اليهوديّين القتيلَين في معسكرات الموت النازية. ماضيان، شخصيّان وكونيّان، يتجابهان على الأرض القديمة إيّاها. لم يستطع الفنان ذو السطوة أن يستحوذ على سحر الشعر وقوّة صمته، بعدما جاب عوالم الأساطير الجرمانية وموسيقى فاغنر ومناظر كاسبر فريدريش والقبالة...

الصورة
من المعرض
تفصيل من لوحة "غدٌ هائلٌ" (من المعرض) 

يشيّد كيفر صنمه الشخصي عبر تحطيمه الأصنام كلّها، كأنه التجلّي الجرماني لقوّة الإرادة. إنه، بدأبه الجرماني، مواظب على تدمير المآثر، وتمريغ الهالات بالوحل، ورشق ما نجا من الصُّروح برذاذ الدم والنفايات، هازئاً بخلود الأعمال الفنّية ورافضاً كلّ تنميق. خلف الجدارية الأضخم في المعرض تقع صالة الحُطام: صُفّفت على أرففها العالية حقائب متربة وأكياس وتوابيت ودمى وصناديق وأدراج مفتوحة من البقايا والشظايا والزهور اليابسة ــ محتوياتها كانت الحياة. لكنّ التصانيف كلّها سُدى، قبض ريح أو قبض حرب. أحياناً، الذاكرة مكبٌّ لجبائر الكسور وفُتات المنازل، يعجز أصحابها وورثتها عن التخلّص منها. قماشة الفنّان دِيست بالأقدام، سُحقت بعجلات الشاحنات وجنازير الدبّابات التي تلوح سبطانة إحداها في زاوية واحد من هذه الأعمال الشاهقة. سيّانِ العدمُ والقيامة.

تخلو أعمال كيفر من الإنسان، المرّة تلو الأخرى. الإنسان آتٍ أو راحل، لكنّه غائب في هذه اللحظة. حضوره هو سُلطة الخراب واندلاع الحرائق. المشاهِد العمودية تستفزّ الناظر، مازجةً الرسم بالأدوات والنباتات: فأسٌ تتوسّط السماء ومقبضُها غصنٌ أعوج مورِق، أو منجل صدئ قُرب السراخس في رحابة الحقول. الحصاد انتهى. الثلوج اتّسخت. تلوذ العين بنقطة التلاشي في الأفق. الأمل هو التلاشي، الحقيقة الوحيدة التي يتحاشاها الجميع.

غطّى المنتصرون فظاعة الماضي بحجابٍ واهٍ من النسيان والتسامح

يغلي الكوكب بحمَمٍ لا تراها العين، والأرض المزيّنة بالحدائق والعمائر سقفُ جهنّم. يقول كيفر إن "الشبّان الأوروبيين غافلون عن أهوال الماضي القريب". لا ينسى المهزومون مرارةَ الدونية. المنتصرون، بشفاعة القوانين، غطّوا فظاعة الماضي بحجاب واهٍ من النسيان والتسامح. لم تتوقّف الحرب. "بشائرُها" تُطلّ في هذا البلد أو ذاك عبر أرجاء أوروبا. يبدو أن الفاشية استفاقت منتعشةً بعد القيلولة، وعمّا قريب سيُنهضها الجوع والظمأ إلى مستضعفين آخرين. دور مَن قد حان؟ مَن يدري إذا كان طُلقاء الفاشية، الأشدّاء المرحون، سينطلقون إلى صيد الغرباء عبر شوارع القرى والضواحي، قبل أن يلتحقوا بالوليمة ويسهروا حتى مطلع الفجر، صاخبين وكلٌّ شاشته بيده في بثّ مباشر للواقع؟ يقول كيفر إنه يدقّ جرس الإنذار.


* شاعر ومترجم سوري مقيم في باريس

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون