مدن غير مرئية.. بيوتٌ تُبنى على حِسابات الفلكيّين (16)

مدن غير مرئية.. بيوتٌ تُبنى على حِسابات الفلكيّين (16)

07 فبراير 2022
"منازل بغسيل ملوّن" لـ إيغون شيلي/ النمسا (جزء من لوحة)
+ الخط -

تنشر "العربي الجديد"، على حلقات أسبوعية، ترجمة الشاعر والروائي والناقد الفلسطيني محمد الأسعد، كتاب "مدن غير مرئية" لإيتالو كالفينو. يعدّ العمل من آخر ما ترجمه الأسعد قبل رحيله المفاجئ في أيلول/سبتمبر من العام الماضي.


■ ■ ■


المدن والسماء (4)

أنشأ الفلكيون، وقد تمّت دعوتهم إلى اجتماع لوضع قواعد أساسات بيرنثيا، المكان والوقت بناءً على مواقع النجوم؛ رسموا الخطّين المتقاطعين للطريق العسكري الروماني والطريق الرئيس، الأوّل باتّجاه مسار الشمس، والآخر مثل المحور الذي تدور حوله السموات. قسّموا الخريطة وفق منازل دائرة البروج الاثني عشر بحيث يتلقّى كلّ معبد وكلّ حيّ التأثير المناسب للكوكبات النجمية المفضّلة؛ ثبّتوا النقط على الجدران حيث يجب أن تُشقّ البوّابات، متوقّعين كيف ستؤطّر كلّ بوابة كسوف القمر في الألف عام القادمة. بهذا ضمنوا أن بيرنثيا ستعكس تناغم القبّة الزرقاء؛ أن عقل الطبيعة ونزعة الآلهة الخيّرة سيشكّلان أقدار السكان.

وباتّباع حسابات الفلكيين بدقّة، تم إنشاء بيرنثيا؛ جاء أناسٌ متنوّعون ليقطنوا فيها؛ أوّل جيل وُلد في بيرنثيا بدأ يترعرع داخل جدرانها؛ ووصل هؤلاء المواطنون إلى سنٍّ تؤهّلهم للزواج ويكون لديهم أطفال.

وتصادف اليوم في شوارع وساحات بيرنثيا مشلولين، أقزاماً، حدباً، رجالاً سماناً، نساءً ملتحيات. ولكنّ الأسوأ لا يمكن رؤيته؛ من الأقبية والعلّيّات حيث تخبّئ العائلات أطفالاً بثلاثة رؤوس أو ستّة أرجل يُسمع نباحٌ حنجريّ خشِن.

والآن يواجه فلكيّو بيرنثيا خياراً صعباً: إمّا أنه يجب عليهم الاعتراف بأن كلّ حساباتهم كانت خاطئة وأن أشكالهم غير قادرة على وصف السموات، أو خلاف ذلك، يجب أن يُظهروا أن نظام الآلهة منعكسٌ انعكاساً تامّاً في مدينة المسوخ.


■ ■ ■


مدن مستمرّة (3)

كلّ سنة في طريق رحلاتي أتوقّف في بروكوبيا وأقيم في الغرفة نفسها وفي الخان نفسه. دائماً، ومنذ المرّة الأولى، كنت أتريّث لأتأمّل المشهد المرئيّ برفع ستارة النافذة: خندقاً، جسراً، جداراً صغيراً، شُجيرة مَشْمَلة، حقل ذرة، رقعة عليق مثمرة، فناءً لتربية الدجاج، الأكمة الصفراء لتلّ، سحابة بيضاء، امتدادَ سماء زرقاء على شاكلة أرجوحة بهلوان.

في المرّة الأولى، أنا على يقين من أنه لم يكن يُشاهَد أحدٌ هناك؛ فقط في السنة التالية، إثر حركة بين أوراق الشجر، استطعت تمييزَ وجهٍ مستديرٍ مسطّح، يقضم عرنوس ذرة. بعد سنة كان ثلاثةٌ من أصحاب هذه الوجوه على الجدار، ولدى عودتي شاهدتُ ستّةً، جالسين في صفٍّ واحد، أيديهم على رُكَبهم، وبعضاً من ثمار المشملة في طبق. صرتُ في كلّ سنة، ما إن أدخل الغرفة، أرفع الستارة وأعدّ مزيداً من الوجوه: ستّة عشر، بمن فيهم أولئك الذين هُم تحت في الخندق؛ تسعة وعشرين، ثمانية منهم يجثمون في شُجيرة المشملة؛ سبعة وأربعين عدا أولئك الذين في فناء الدجاج. إنهم متشابهون؛ إنهم يبدون مؤدبّين، على خدودهم نمَشٌ؛ إنهم يبتسمون، لبعضهم شفاهٌ لطّختها ثمار العلّيق. وما أسرع ما رأيتُ الجسرَ كلّه ممتلئاً بشخصيات مستديرة الوجوه، متجمهرة، لأنه لم يعد لديها مجالٌ إضافيّ تنتقل إليه؛ إنها تمضغ بذور الذرة ثم تقضم العرانيس.

لا تملك أدنى فكرة عن عدد الناس في حقل الذرة الصغير

وهكذا، مع توالي سنة بعد أخرى، رأيت الخندق يغيب، الشجرة، رقعة العلّيق، تخفيها سياجات من ابتسامات هادئة، بين خدود مستديرة، تتحرّك، ماضغةً أوراق الشجر. أنت لا تملك أدنى فكرة عن عدد الناس الذين يمكن أن يحتويهم حيّزٌ ضيّق مثل حقل الذرة الصغير ذاك، وبخاصّة وهم جالسون يحتضنون رُكَبهم بلا حراك. لا بدّ أنهم أكثر عدداً ممّا يبدون عليه: لقد شاهدت أكمة التلّ تصبح مغطّاة بزحام أشدّ وأشدّ؛ ولكنّ أولئك الذين على الجسر أصبحت لديهم الآن عادة الجلوس مباعدين بين أرجلهم على أكتاف بعضهم بعضاً، ولم تعد نظرتي تستطيع الوصول إلى ما هو أبعد.

أخيراً، في هذه السنة، وأنا أرفع الستارة، إطارات النافذة ليست سوى امتداد من وجوه: من زاوية إلى أخرى، على كلّ المستويات والمسافات، تُشاهد هذه الوجوه المستديرة، الساكنة، المسطّحة تماماً، مع طيف ابتسامة، وفي وسطها، أيدٍ عديدة تمسك بأكتاف أولئك الذين في المقدمة. حتى السماء اختفت. وقد يكون عليّ أنا مغادرة النافذة أيضاً.

هذا لا يعني أن الانتقال سهلٌ بالنسبة إليّ. هناك ستة وعشرون منهم يقيمون في غرفتي: لكي أحرّك قدمي يكون عليّ إزعاج أولئك الذين يجثمون على أرضية الغرفة، أن أشقّ طريقي وسْط ركب أولئك الجالسين على خزائن الملابس ومرافق أولئك الذين يتبادلون أدوارالاتّكاء على السرير؛ كلّهم مؤدبون جداً، لحسن الحظ.


■ ■ ■


مدن مخفية (2)

الحياة ليست سعيدة في رايسّا. الناس يعصرون أيديهم وهم يسيرون في الشوارع، ويلعنون الأطفال الباكين، ويتّكئون على الحواجز مطلّين على النهر، ويضغطون أصداغهم بقبضاتهم. في الصباح تستيقظ من حلم سيّئ ويبدأ آخر. عند طاولات الحرفيّين حيث تضرب إصبعكَ بمطرقة أو تنخسها بإبرة في كلّ لحظة، أو فوق جداول أرقام كلّها منحرفٌ في دفاتر حسابات التجّار والمصرفيّين، أو عند صفوف أكواب فارغة على مناضد الحانات الزنكية، الرؤوس المنحنية تخفي على الأقلّ النظرة المحدقة المتجهّمة العامة. في داخل البيوت، الأمر أسوأ، ولستَ بحاجة إلى الدخول لتعرف هذا؛ في الصيف تضجّ النوافذ بأصوات المشاجرات والأطباق المحطّمة.

ومع ذلك، هنالك في كلّ لحظة في رايسّا طفلٌ يضحك في نافذة وهو يشاهد كلباً يقفز على سقيفة ليعضّ قطعة من ثريد الذرة أسقطها بنّاءٌ يصيح من أعلى السقالة: "حبيبتي، دعيني أغرق فيه" على نادلة مطعم شابّة ترفع عالياً طبق حساء متبّلاً تحت التعريشة، سعيدةً بتقديمه إلى صانع المظلّات الذي يحتفل بصفقة ناجحة؛ مظلّة صغيرة بيضاء مخرّمة اشترتها لتعرضها في سباقات الخيل سيّدةٌ عظيمة تحبّ ضابطاً يبتسم لها وهو يقوم بقفزته الأخيرة؛ رجل سعيدٌ، والأكثر سعادةً منه حصانه وهو يطير فوق الحواجز ناظراً إلى درّاج يطير في السماء؛ طائرٌ سعيد حرّره من قفصه رسّامٌ سعيد بكونه رسمَهُ ريشةً ريشة، منقّطاً باللون الأحمر والأصفر ضمن زخرفة تلك الصفحة في المجلّد حيث يقول فيلسوف: "أيضاً في رايسّا، مدينة الكآبة، يجري خيطٌ غير مرئيّ، ذلك الذي يربط للحظةٍ كائناً حيّاً بآخر، ثم ينحلّ، ثم يتمدّد مرّة أخرى بين نقط متحرّكة وهو يرسم مخطّطاتٍ جديدة وسريعة بحيث تحتوي المدينة غير السعيدة في كلّ ثانية على مدينة سعيدة لا تعي وجودها هي".


■ ■ ■


المدن والسماء (5)

بُنيت آندريا بمهارة فنّية عالية، بحيث إن كلّ شارع من شوارعها يتبع مدار كوكب، وتكرّرُ المباني وأماكنُ حياة الجماعة نظامَ الكوكبات النجمية ومواقع أشدّ النجوم التماعاً: كوكبة العقرب، النجوم الساطعة، كوكبة الجدي، النجوم الصفراء الوامضة. تقويم المدينة السنويّ يبلغ درجة عالية من الانتظام إلى حدّ أن الوظائف والمؤسّسات والاحتفالات منظّمةٌ في خريطة تُناظر القبّة السماوية في ذلك اليوم: وبالتالي فإن النهارات على الأرض والليالي في السماء تعكس إحداها الأخرى.

مع أن حياة المدينة منظّمة تنظيماً جاهداً، إلّا أنها تجري جرياناً هادئاً مثل حركة الأجرام السماوية، وتكتسب حتميّةَ الظواهر غير الخاضعة للنزوات الانسانية. وقادني امتداحي لمواطِنِي آندريا على صناعتهم المنتجة وطلاقتهم الروحية إلى القول: "أستطيع أن أفهم جيّداً كيف أنّكم، شاعرين بأنفسكم جزءاً من سماء غير متغيّرة، مُلسنين في آليّةِ ساعةٍ دقيقة، تحرصون على عدم إحداث أدنى تغيير في مدينتكم وعاداتكم. آندريا هي المدينة الوحيدة التي أعرفُ حيثُ البقاء فيها بلا حركة في الزمن هو الأفضل.

طائرٌ حرّره من قفصه رسّامٌ سعيد بكونه رسمَهُ ريشةً ريشة

فنظر بعضٌ إلى بعض مشدوهاً: "ولكن لماذا؟ مَن قال شيئاً مثل هذا؟". وقادوني لزيارة شارع معلّق افتُتح منذ وقت قريب فوق أجمة خيزران، ومسرح خيال ظلّ تحت الإنشاء في مكان أوجار كلاب البلدية التي نُقلت الآن إلى سرادق المحجر الصحّي السابق، ذلك الذي أُلغي حين شُفي ضحايا آخرِ وباء، وإلى ــ ما تمّ تدشينه للتوّ ــ ميناءٍ نهري، تمثالٍ لطاليس، مزلقةِ تزلُّج.

سألتُ: "وهذه المبتكرات الجديدة، ألا تشوّش إيقاع مدينتكم النجميَّ؟".

أجابوا: "تُناظر مدينتنا السماء تَناظراً تامّاً، بحيث إنّ أي تغيير في آندريا يستلزم شيئاً جديداً بين النجوم".

بعد كلّ تغيير يحدث في آندريا، يحدّق الفلكيون في مناظيرهم المقرِّبة، ويفيدون بحدوث انفجار نجمٍ مستعِر، أو تغيّر لون نقطة نائية في القبّة السماوية من اللون البرتقالي إلى الأصفر، أو تمدّد غيمة سديمية، أو الانحناء في لولب درب التبّانة. في آندريا، كما بين النجوم، كلّ تغيّر يعني ضمناً سلسلةَ تغيُّرات أُخرى: المدينة والسماء لا تظلّان على حالهما أبداً.

أمّا بالنسبة إلى سِمات سكّان آندريا الشخصية، فهناك فضيلتان تستحقّان الإشارة إليهما: الثقة بالنفس والحكمة. إنهم، بسبب قناعتهم أن كلّ ابتكار جديد في المدينة يؤثّر على مخطط السماء، يحسبون قبل اتخاذ أي قرار المخاطرَ والمزايا بالنسبة إلى أنفسهم والمدينة والعوالم كلها.

المساهمون