كيف يقرأ كتّاب اليوم غابرييل غارسيا ماركيز؟

10 يوليو 2024
غابرييل غارسيا ماركيز في افتتاح مهرجان السينما اللاتينية في هافانا، كوبا، 2007 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- ملايين القراء اليابانيين ينتظرون ترجمة "مئة عام من العزلة"، وودي آلن يعبر عن إعجابه بمؤلفات ماركيز، وأخبار عن روابط عائلية بين ماركيز والرئيسة المكسيكية كلوديا شينباوم.
- "مهرجان غابو" في بوغوتا استضاف أكثر من 170 كاتباً وروائياً لمناقشة تأثير ماركيز على الأدب والفن، مع التركيز على كيفية قراءة الكتّاب الجدد لأعماله.
- ناقش الكتّاب تأثير ماركيز على الأدب والثقافة، مشيرين إلى ديمومة أعماله وتأثيرها العميق، وأوصوا بقراءة أعماله في ضوء التحولات الحالية.

"ملايين القُرَّاء اليابانيّين لغابرييل غارسيا ماركيز ينتظرون افتتاح مكتبات طوكيو للحصول على النُّسخ الأُولى من الترجمة اليابانية لروايته 'مئة عام من العزلة'"؛ "في مُقابلةٍ أخيرة أُجريت مع السينمائي وودي آلن أعلن فيها أنَّ صاحب 'خريف البطريرك' هو كاتبه الساحر"؛ "تناقلت بعض وسائل الإعلام العالمية أخباراً تُشير إلى وجود روابط عائلية بين حائز 'نوبل للآداب' والرئيسة المكسيكية المُنتخبة حديثاً كلوديا شينباوم"، هذه بعض الأخبار المُتعلّقة بالكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز (1927 - 2014)، والتي تناقلتها أبرز الصحف العالمية في الأسبوع الأخير، احتفاءً بالمؤلّف، كما لو أنّه لا يزال على قيد الحياة. 

تتزامن هذه الأخبار مع "مهرجان غابو" في دورته الثانية عشرة، الذي أُقيم في مناطق متعدّدة من العاصمة الكولومبية، بوغوتا، بين الخامس والسابع من الشهر الجاري تحت شعار "حكايا كي تستيقظ". 

استضاف المهرجان أكثر من مئة وسبعين كاتباً وروائياً من مختلف بُلدان العالم، لمناقشة موضوعات متعلّقة بالصحافة والفنّ والأدب والموسيقى والسينما، بين أمورٍ عديدة أُخرى.

على الرغم من تنوّع نقاشات وحوارات المهرجان، فإنَّ موضوعه الرئيس والأهمّ يُمكن أن يُلخَّص بالطاولة المستديرة التي جمعت كتّاباً من جيل التسعينيات لمناقشة "كيف يقرأ الكتّاب الجُدد غابرييل غارسيا ماركيز اليوم؟".

سؤال طُرح على الكتّاب في ظلِّ سلسلة من الأخبار الأخيرة التي تؤكّد أنّ الكاتب لا يزال حاضراً في المشهد الأدبي العالمي، خصوصاً بعد طباعة روايته الأخيرة "نلتقي في آب"، واقتراب عرض مسلسل على منصة "نيتفليكس"، لنصٍّ مُستوحى من رواية "مئة عام من العزلة".

تحوّل ماركيز إلى مغناطيس تذكاري يُباع في محلّات بيع الهدايا

ربّما هذا ما دفع الكاتب الكولومبي هارولد مونيوز (1992)، مؤلّف رواية "اخرُج إن استطعت" (2022)، والمقيم في بوغوتا، أن يقول إنّ "ماركيز صار هو نفسه مُنتجاً. صحيح أنَّ هذه الأخبار هي وسائل كي يبقى الكاتب حيّاً، لكن لا يحدث الأمر نفسه مع عمله الإبداعي. لقد حوّلوا غابرييل غارسيا ماركيز إلى مغناطيس تذكاري يُباع في محلّات بيع الهدايا التذكارية كي يُعلّق على الثلّاجة. وهذا أمر مُحزن. لأنّ عمله الحقيقي ودوره الملتزم والحيوي بوصفه صحافياً وروائياً يُحيَّدان ويوضعان جانباً. بالنسبة إليّ لا يمكن فصل نضاله الاجتماعي والسياسي في أميركا اللاتينية عمّا كتبه".

يأخذ مواطنه الروائي بيدرو ليموس (1995)، صاحب رواية "سأسميه حبّاً" (2023) خيط الفكرة ويستطرد: "لا شك في أنَّ فكرة مغناطيس الثلّاجة تم تكريسها ضمن القراءات السائدة للروائي، التي لا تخرجه من سياق مصطلح "الواقعية السحرية"، مع غيره من كتّاب أميركا اللّاتينية البارزين". يضيف ليموس: "يجب اليوم قراءة غارسيا ماركيز خارج تلك التسميات والمصطلحات التي لا تعبّر عن تعقيدات نصوصه، بل تحدُّ منها. إنها كليشيهات وتسميات توضع على نصوص ماركيز، ولكنها في حقيقة الحال لا تعطي إلّا فكرة مختزلة عن أدبه، وأدب أميركا اللاتينية ومنطقة بحر الكاريبي. إنها ظلّ يُثقل على القرّاء، وأنا شخصياً لا أريد أن أغطّي نفسي بهذا الظلّ".

من أميركا الوسطى، تحديداً من الهندوراس، قدّمت الكاتبة والصحافية جينفير آفيلا (1991)، وجهة نظرة مختلفة عن زميليها، فـ"غابو"، بالنسبة إليها، "لا يزال عمله حيّاً ونابضاً، ولا يعود ذلك إلى أن أعماله لا تزال تُنشر بعد موته فحسب، بل لأنها أعمال دائمة، تستمرّ معنا". وهنا تستفيض الصحافية في الحديث عن ماركيز، وتدعم وجهة نظرها بقولها إن "وصول ماركيز إلى القرى النائية في أميركا اللاتينية، وإدراج بعض نصوصه للقراءة الإجبارية في الأنظمة التعليمية دليل على أن أعماله تُناقش بعُمق".

الشاعرة الكولومبية، المتحوّلة جنسيّاً، ماي رومير (1990) تستعيد فكرة "الواقعية السحرية" وتُسقطها على واقع التحوّلات "السحرية" الحاصلة في القارّة اللاتينية، سياسياً، واجتماعياً، وثقافياً وجسدياً. هنا تماماً يبرز دور "غابو"، برأيها، حيث "استطاع بواقعية استبصارية سحرية أن يتنبّأ بالتحوّلات التي تُقبل عليها القارّة، وهي تحوّلات لا يُمكن أن نفهم ثقافتنا دونها، وهذا تحديداً ما يجعل عمل غابو ودوره حاضرَين، إذ إنّ جُلّ أفكاره السياسية والاجتماعية والثقافية والجندرية تتبلور في إطار هذه التحوّلات التي تحدث في القارّة، وفي العالَم أيضاً".

في نهاية المناقشة، طلبَت مديرة "المكتبة الوطنية" في كولومبيا، ومُسيّرة النقاش، من كلِّ كاتب اختيار عمل من أعمال ماركيز كي ينصح به القرّاء والكتّاب الشباب. اختار مونيوز رواية "خريف البطريرك" التي تعلّم منها أن "يسخر من السلطة التي يجسّدها البطريرك. هذه السلطة هي اليوم النظام السياسي الحاكم للعالَم. لذلك يجب على الجميع أن يقرأها".

أما ليموس، فقد أوصى بالرواية الأولى للكاتب الكولومبي "عاصفة الأوراق" لأنها "توضّح لنا بذرة ما حدث بعد ذلك". وبدورها أوصت الصحافية الهندوراسية آفيلا بقراءة "مئة عام من العزلة" في لحظات مختلفة من الحياة لأن "كل لحظة ستكتسب فيها الرواية معنى جديداً، وهذا سرّ عبقرية ماركيز". ووقع اختيار الشاعرة ماي روميرو على "لم آتِ لألقي خطاباً" لأنها "تبدو محادثة عفوية بين القارئ والكاتب". 

لا يختلف اثنان حول أهمية غابرييل غارسيا ماركيز ومكانته روائياً عالمياً استطاع أن يجعل حياة أميركا اللاتينية قابلة للسرد، والقراءة حول العالم. ربما لهذا تحديداً لا يشعر هؤلاء الكتّاب والروائيون من الجيل الجديد بأي توتر أو صراع عند مواجهة حضور هذا الروائي الراحل، الحاسم والحيوي حتى الآن في المشهد الأدبي المحلي والعالمي. 

لا يُمكن فصل نضاله الاجتماعي والسياسي عن كتاباته الأدبية

"نحن لا نعرف وزن الشخص الميت"، بهذه الجملة اختتمت مُسيّرة النقاش، الطاولة المستديرة، في إشارة إلى الجملة التي قالها قبل عشر سنوات، الكاتب المكسيكي خوان فيلورو، في حديث له عن غابو، مؤكّدة أنّ الأموات في بعض الأحيان، تماماً كما هو حال الكاتب الكولومبي، يزنون أكثر من الأحياء، على حدّ تعبير خوان رولفو. 

خاتمة لا بدَّ منها

تعود الأُمم الحيّة إلى كتّابها البارزين كي تقرأهم من جديد في ضوء المتغيّرات المحلّية والعالمية التي يشهدها عصرنا. "مهرجان غابو" في دورته الثانية عشرة نموذج للعودة إلى كاتب رحل عن عالمنا في عام 2014، ولكن قراءة كتبه تتجدّد باستمرار في ضوء التحولات التي تحدث في القارة اللاتينية، وفي العالم.  

ثمّة ظاهرة غريبة تحدث في العالم العربي لا ترتبط بطريقة قراءة الكتّاب البارزين الذين رحلوا عن عالمنا العربي فحسب، بل أيضاً بالقراءة السائدة للكتّاب والشعراء والروائيين الذين ما زالوا على قيد الحياة. إنها القراءة الأيديولوجية أو الجاهزة أو المسبقة للمؤلّف أو الكاتب أو الشاعر أو الروائي، بمعزل عن نصه الذي يكتبه. أياً كان هذا النص. هي قراءة تبسيطية، تلفيقية وفي أحسن الأحول توفيقية، تضع للقراءة حدُوداً لا يجوز اختراقها، وتوفّق بينها وبين الفكر الواحد، محاوِلةً في ذلك مساعدة أنظمة الطغيان والاستبداد، على إخماد شرَر أيّة ثورة تلتهب في عقل القارئ، في جسده، وفي مخيّلته وفكره. 

أن تُفرض قراءة واحدة ووحيدة على نصّ يعني، من بين أشياء أُخرى، نهاية العقل والمعرفة والفكر والمخيّلة، ويعني أيضاً غربلة هذا النص في تصوّر أصحاب هذه القراءة، أي تصوّرهم الخاص للواقع وللغة.

يبرع في الحياة العربية فنٌّ يكاد أن يكون خبرنا اليومي. إنّه فنُّ الاستحواذ. الاستحواذُ على كلّ شيء: السلطة، الثقافة، الدين، اللغة، الكتابة، القراءة، إلخ... وقد برعت المؤسسات السلطوية في العالم العربي في ترسيخ هذا الاستحواذ، بحيث صار المواطن نفسه بارعاً في ممارسة هذا الاستحواذ على كل شيء. والقراءة السائدة اليوم في العالم العربي هي بغالبيتها العظمى قراءة واحدة تستحوذ على النص، وتقيّم كاتبه وفقاً لهذه القراءة، فتخوّنه أو تكرّمه، رافضةً القراءات الأُخرى. 

المساهمون