قراءات في ضوء غزّة: لماذا لا نفهم ما يُكتب؟

16 مايو 2024
صبي فلسطيني يقف أمام جدارية في منزل دمره الاحتلال، 23 حزيران/ يونيو، 2023 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- القراءة في العالم العربي تواجه تحديات القمع والرقابة من الأنظمة المستبدة، مع وجود أصوات تدعم هذه الأنظمة وتقيد حرية الفكر.
- خوسيه أورتيغا إي غاسيت يفرق بين نوعين من القراء، مؤكداً على أهمية الفهم العميق للأعمال الفنية لتجاوز القراءة السطحية.
- يُشدد النص على ضرورة تبني نهج قراءة أكثر تحليلية ونقدية في العالم العربي لتعزيز التقدير للتنوع الفكري والثقافي.

مهما كان المجتمعُ خاضِعاً، بطريقةٍ أو بأُخرى، ومهما حاولت الأنظمة العربية المُستبدّة مُمارسة القمع والترويض والرقابة، فإنَّ القراءة تبقى مكاناً للثورة والعصيان. غير أنَّ اللّافت في الحياة الثقافية العربية الراهنة، وهو أمر يدعو إلى التحليل والدراسة، أن ثمّة أصواتاً "ناقدة" و"فكرية" و"أدبية" وعددُها ليس قليلاً، تدعم هذه الأنظمة، وتضع للقراءة حدُوداً لا يجوز اختراقها، محاوِلةً في ذلك، عن وعي أو غير وعي، مساعدة تلك الأنظمة على إخماد شرَر أيّة ثورة تلتهب في عقل القارئ، في جسده، وفي مخيّلته وفكره. 

يطرح الفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيغا إي غاسيت (1883 - 1955) في كتابه "تجريد الفنّ من النزعة الإنسانية" سؤالاً مفادُه: كيف يُقرأ العمل الإبداعي؟ يرتكز إي غاسيت في معرض إجابته عن السؤال على أساس التأثيرات الاجتماعية التي يُحدثها الفنّ، مميِّزاً بين نوعين من القُرّاء: أولئك الذين يفهمون العمل الفنّي وبالتالي يحبّونه؛ وأولئك الذين لا يفهمون العمل الفني وبالتالي يكرهونه. 

ولكي يشرح المُنظّر الإسباني الأمر جيّداً يستحضر، كمثالٍ، مسرحية "هرناني" لـ فيكتور هوغو، التي لم تُعجب الكلاسيكيين القدماء عندما قرأوها، لأنّهم "متعلّقون ومؤمنون ومعتادون على إحساس مشترك وإخباري وجمعي ومعروف"، ويوضّح ذلك قائلاً: "إنّنا عندما نكره عملاً أدبياً ورغم ذلك نفهمه، نشعر بالعلوّ عليه، ولا نجد ما يثير غضبنا. ولكن عندما يولّد العمل الأدبي فينا كرهاً ناتجاً عن عدم فهمنا له، فإنّنا نشعر في أعماقنا المُعتمة بشيء من الخزي، وبعلوِّ هذا العمل على ذاتنا، التي نحاول من خلال تأكيدها الساخط تعزية أنفسنا أمامه". 

"اقرأ باسم ربّك" لا تعني اقرأ ما كُتب فحسب، وإنما ما لم يُكتب أيضاً

كيف يُمكن أن نُؤكّد هذه الذات أمام عمل إبداعي لا نفهمه؟ يجيب الفيلسوف الإسباني عن السؤال بأنَّ "القارئ" الذي لا يستطيع أن يخرج من المُشترك، والجماعي، والإخباري، والعام، لن يفهم هذا العمل مهما فعل، لأنَّه قارئ يعيش في سياق المألوف وصفحاته. قراءتُه، ضمن هذا المعنى، لن تستطيع أن تستخرج من النص، على الصعيد المعرفي أو العاطفي، أي شيء جديد. إنّها، بتعبير آخر، قراءة مُستنفدة، لأنها أسيرة الواقع المباشر الظاهر والشائع. إنّها، وكما يصفها، قراءة سطحية، أسيرة الأسماء والأشكال. 

ما يقوله الفيلسوف الإسباني، كما يبدو لي، ينطبق على حال القراءة السائدة في العالَم العربي، والتي، حتى الآن، يبدو أنّها لم تخرج من مدار ثقافة المؤسّسات السياسية والدينية والثقافية العربية السلطوية السائدة، التي مارست الرقابة ورسّخت ثقافتها الواحدة ونشرتها وروّجتها وخلقت بذلك جمهوراً لا يُعجَب إلّا بنموذج هذه الثقافة وبالنصوص التي تُكتب في فلكها. وهكذا عندما لا يجد "القارئ" في النصّ الذي يقرأه أفكار هذه المؤسّسة، أو في أحسن الأحوال، أفكاره الخاصة، لن يُعجبه النص، وسيرفضه. وإذا كان نصاً شعرياً فسيقول إنه ليس شعراً، وكذلك الأمر بالنسبة للأجناس الأُخرى. لأنه، ببساطة، لا يريد أن يقرأ في النصّ إلّا الأفكار التي يعرفها، لا يريد أن يقرأ إلا الأجوبة التي عوّدته المؤسّسة عليها. وبطبيعة الحال، لا يجوز التعميم، فهناك قرّاء حقيقيون في العالم العربي يحبّون أن يجدوا في النصوص أفكاراً تناهض أفكارهم وذائقتهم وتثير فيهم التساؤلات الكبرى.
    
تتأسّس العلاقة الأولى للقارئ مع النص في كيفية قراءته. وهذا يعني أنّ للنص مستوياتٍ متعدّدة، بتعدد قراءاته. لو سألنا اليوم ما مستوى القراءة السائدة للنصوص الإبداعية في الثقافة العربية؟ فإن الجواب سيكون: القراءة التي تُغلّب السطح لا العمق، أي القراءة بمنظورها الأيديولوجي والسياسي والديني، القراءة التي تغلّب الأسماء، الكلمات، لا ما وراءها. ولذلك لن نستغرب أن نرى بعضهم يطالبون شاعراً بوضع كلمة أو اسم غزّة، تمثيلاً لا حصراً، كي تُقرأ قصيدته بوصفها قصيدةً عن غزّة!

لا يزال بعض "القرّاء" العرب مستمعين، ينصتون فحسب. ربّما لهذا يطلبون من الشاعر أو الكاتب أن يكون واضحاً، أن يسمّي، ويحدد، ويعرّف. وهم بذلك يساهمون في تحويل الشعراء إلى مطربين ومنشدين أو مغنين. الطّامة الكبرى هي أنَّ ثقافة القراءة السائدة هذه قد انتشرت وأسّست لـ" نقد" يقيّم الأعمال الإبداعية وفقاً لهذه المعايير. 

الجميع يسمّي غزّة، ولا أحد يجرؤ أن يفعل شيئاً لوقف الإبادة

أن تُفرض قراءة واحدة ووحيدة على نصّ يعني، من بين أشياء أخرى، نهاية العقل والمعرفة والفكر والمخيّلة، ويعني أيضاً غربلة هذا النص في تصوّر أصحاب هؤلاء القراءة، أي تصوّرهم الخاص للواقع وللغة. 

قد يجهل بعض "القرّاء" أنَّ اللغة هي الممارسة الوجودية التي يتأسّس بها الإنسان ويتحقّق قبل أن تكون أداة تواصل. إنّها الشكل الذي يفُصح عن وجود الكائن الإنساني ويُظهره. ويكفي أن نعرف أنَّ الإنسان تواصل قبل اللغة، قبل تسمية الأشياء. ضمن هذا المعنى، ليست اللغة تسميةً، ليست وصفاً، وهي ليست كي يقول الإنسان ما هو واقع وحسب، بل إنها قبل كل ذلك كي تقول الوجود، تأسيساً وصيرورةً وكينونة. وهي ليست صوراً للأشياء أو تمثيلاً أو محاكاةً لها. إنها رموز ودلالات واصطلاحات، وهي، إذاً، ليست تسميةً، بقدر ما هي، حركة فعل وفعالية، وما بينهما من أفق السؤال والتغيّر.

يبرع في الحياة العربية فنٌ يكاد أن يكون خبرنا اليومي. إنّه فنُّ الاستحواذ. الاستحواذُ على كلّ شيء: السلطة، الثقافة، الدين، اللغة، الكتابة، القراءة، إلخ... وقد برعت المؤسسات السلطوية في العالم العربي في ترسيخ هذا الاستحواذ، بحيث صار المواطن نفسه بارعاً في ممارسة هذا الاستحواذ على كل شيء.

هل الاسم معيارٌ لتحديد القضية أو الموضوع؟ ظنّي أنَّ الوقوف عند الأسماء هو ما أدّى إلى هذا التخاذل والتراجع العربي عن قضية فلسطين، لأنّها قراءة لا تريد من القضية، قضية العرب، إلّا الاسم فحسب، فلسطين، أما الفعل فهو مؤجّلٌ وغائب، فالمهمّ هو الاسم- الشعار! هذا ما عملت الأنظمة العربية الراهنة، بمؤسساتها السياسية والثقافية، وبمثقفيها ونقادها وكتّابها، على نشره وترويجه في المجتمعات العربية. وربّما في هذا ما يوضّح لنا هذا الموقف العربي البائس والمستسلم وقائياً، وحيث الجميع يسمّي غزّة، ولكن لا أحد يجرؤ أن يفعل شيئاً لوقف الإبادة الحاصلة.  

ثمّة نوعان من القرّاء. قارئ يُمسك بذيل النصّ ويركض وراءَه، فهو أقلُّ منه. وقارئ يحيط بالنص لكي يأسره في لحظته، فهو أكبر منه.

الآية الكريمة التي تقول: "اقرأ باسم ربّك" لا تعني اقرأ ما كُتب فحسب، وإنما تعني أيضاً اقرأ وتمعّن وافهم ما لم يُكتب أيضاً. 

لكن في ضوء الأحداث الراهنة التي ترجّ الحياة العربية، وفي ظلّ الإبادة الجماعية في غزّة التي تُنذر بإبادات مُستقبلية، يجدر بنا أن نسأل: متى تجيء اللحظة التي نعيد فيها النظر في مفهوم القراءة السائدة في العالَم العربي. وأن نتساءل أيضاً: لماذا لا نفهم ما تقوله، يا أبا تمّام! 


* شاعر ومترجم سوري مقيم في إسبانيا

المساهمون