فيلم "مهمّة اعتراضية": عالَم مسطّح بعيون نتفليكس

فيلم "مهمّة اعتراضية": عالَم مسطّح بعيون نتفليكس

18 يوليو 2022
(من الفيلم)
+ الخط -

فجأةً ومن دون سابق إنذار، خَفّت قليلًا، في ديار الغرب، موجاتُ الرُّهاب من الإسلام والمسلمين، أو الإسلاموفوبيا، واختفت لِحينٍ أحاديث شيطنَتهم من خِطابات السياسة والفنّ الغربِيَّيْن، بعد أن مَلأتْها في الأشهر القليلة الماضية، ولا سيما في الحملات الانتخابيّة، وحلّت محلّها شيطنة "العدوّ الرّوسيّ" واعتباره أخشى ما تخشاه الإنسانيّة. ولا شكّ في أنّ الحرب الروسيّة - الأوكرانيّة الدائرة رحاها في هذه الأيام أسهمت بوضوحٍ في إرساء هذه الصّورة وانتشارها في الخطابات العامّة، أكانت سياسيّة أو فنية.

وكثيرًا ما تشهد المنتجات الثقافية - ومنها الأفلام السينمائية - على مثل هذه التحوّلات في الأمزجة السياسية. وبعد تراجع حضور "العدو الروسي" لسنوات، ها هو يطل مجدَّدًا في الصناعة السينمائية الأميركية، ما نجده في فيلم "مهمّة اعتراضية" Interceptor الصادر في أيار/ مايو الماضي عبر شبكة نتفليكس. ولعلّ استحضار هذا العدو بالذات أتاح لهذا العمل أن يكون في المراتب الأُولى الأعلى مشاهدةً.

يُصوّر هذا الشريط صمود قاعدة بحريّة أميركيّة حيال هجمة "إرهابيّة" كان قد أعدّ لها الرّوس منذ مدة، بمساعدة عميلٍ من الجيش الأميركيّ. وكان الهدف من هذه الهجمة إعطاب النظام إلكتروني المشغّل لهذه القاعدة من أجل تمكين الصواريخ الروسيّة النووية من ضرب الولايات المتّحدة الأميركيّة وسَحقها كليًّا. وهنا تتدخّل البَطلة لتقِف في وجه المُهاجمين وتمنعهم، بعد صراع طويل، من تَنفيذ خطّتهم، منقذةً بذلك العالَم الحُرَّ من هذه الضربة القاصمة. وتكمنُ الجدّة في إسناد دور البطولة إلى مرأة تُجسّد قيمَ المواطنة وتحمل المُثل المطلقة في إيحاءٍ بالتساوي بين الجنسيْن وإمكانية أن تؤدّي المَرأة نفسَ أدوار البطولة التي يؤدّيها الرجل.

ها هو "العدو الروسي" يطل مجدّداً في السينما الأميركية

ولا يُفسد هذه الحِبكة العامّة أن يكون أحد المتواطئين في هذا الهجوم أميركيًّا، إلّا أنّه صُوّرَ هنا منحرفًا، يؤمن بنظريّة "تفوّق البيض" (suprématie)، ويحمِل كلَّ أشكال التطرّف، كالعُنْصُريّة وكراهيّة النّساء والتمييز العرقيّ. ولا شكّ في أنّ إضافة هذا العنصر في السيناريو لتُؤكد شرّ الروس وخُبثَهم ومَدى تدخّلهم للتأثير في الرأي العام والتلاعب بمناحيه، وهو ما يبرّر تَصويرَهم، سينمائيًّا وسياسيًّا، وكأنّهم مَصدر الشرّ المطلق، حَسب تسمية المفكّر السوري مطاع صفدي (1929 - 2016) والذي خصّص العديد من المقالات حول آثار الأمْركة في بقيّة العالَم التي تحمل ضمناً هذا الشرّ. هذا الآخر كان، ولفترات طويلة، "المسلم الإرهابي" وحتى "المسلم المندمج" أحيانًا، وها هو يصير فجأةً العدوّ الروسي، والذي يفشل اليوم في خطّته الشريرة، وسيفشل حتمًا غدًا، في القضاء على الحريّة، هكذا في ثنائيّة ميكافيلية سطحيّة وساذَجَة.

فبالفعل، السيناريو، في مُجمله، سطحيّ مَكرورٌ، لا أصالَة فيه ولا ابتكار، لأنّه يَستعيد بعض التمثيلات الثقافيّة التي صَنعها الخطاب السياسيّ ودوائرُ مفكّريه بأميركا، ضمن منطق الصراع والانقسام الذي يَشطر العالَم إلى مُعسكر الدّول الديمقراطيّة والدّول الأخرى، وخاصّة روسيا والصّين اللتَيْن ترمزان إلى القَمع الذي لا يوقفه شيءٌ.

وفي مقابلها، تظهر شجاعة البَطل - وهو هنا امرأة - الذي لا يُقهر، والذي يدافع عن القيم الحرّة، كأنّما بتفويضٍ إلهيّ، في ترسيخٍ لأسطورة الجيش المنتصر المنضبط الذي ينافح عن الأرض، مهما كان ثمن التضحيات باهظًا. وتُمثّل مَشاهد هذه البَطلة الغالبة تجسيدًا للنموذج الأميركيّ الناجح، وتَفترض عدوًّا فاشلًا بالضرورة. وإن لم يكن هذا العدوّ موجودًا، فإنّ السُّلطَة تبتكره ابتكارًا لتضعه في مواجهه الذات وتَقيس عَبره عَظَمتها من أجل إظهار ضَعفه، وهي تصوّره عدائيًّا ولا تحتمله شريكًا محتملاً، يُمكن أن يفوزَ هو الآخر بمجالٍ حَيويّ، ولو مَحدودٍ، وهكذا، تُقصى كل إمكانيّة للآخَر في الحَركة ويُحكم عليه أن يكون تابعًا أو لا يكون، وعدائيًا ليُبرّر النظام ضَربه بقوّته العسكريّة والاقتصاديّة.

هذا، وتمثّل الطبيعة، بامتدادها وترامي أطرافها، جزءًا من هذه السّطْوة الأميركيّة الذي يسعى الشريط إلى ترسيخها، وهي التي تهبّ الولايات المتّحدة هذا التفوّق الامتدادي برًّا وبحرًا، حيث يقوّي الاتساع الجغرافيّ وهمَ السيطرة الجيو-سياسيّة على بقيّة العالم وأيديولوجيا التفوقّ عليه بفضل الترامي الطبيعيّ المحميّ بِالبحار والمحيطات والتي تصبح بمثابة حدود لا تُقهر، وتعضدها، كما في هذا الشريط، نقاط ثابتة، منبثّة حول العالم مهمّتها حماية الوطن الأمّ من الهجمات المحتملة.

وأمّا التفصيل الماكر الذي يَلعبُ عليه هذا الشريط، وغيرُه من الأفلام المشابهة، فهو ظهور عدم كفاءة الأعداء بشكل فاضِحٍ، فهم يَخسرون المعركة وتفشل خططهم بسبب نقص استعدادهم، في إشارة ضمنيّة إلى أنّ هؤلاء الأعداء، أكانوا مسلمين أم روسًا، غير قادرين على تملّك نَفس المهارات التي يتوفّر عليها نظراؤهم الأميركيّون، كفاءة تحرّكها وتدعَمها عقيدة الحريّة والعدالة كأنما هي فطرية فيهم.

ولذلكَ تَحضر باستمرار فكرة الحريّة التي يدافع عنها الأميركيون، دون غيرهم، بوصفهم المُدافع الأوحد عن العالَم الحرّ والتجسيد الأمثل له، في حين يُصوَّر الأعداء كرافضين لهذه القيمة، يشدّهم حنين إلى القرون الوسطى وإلى الأنظمة القمعيّة. وتعود هذه الفكرة الساذجة إلى ثنائيات الخير والشر، الرجعيّة والتقدّم، الحريّة والاضطهاد التي يَستدعيها الشريط ليجعل من أميركا وبطلتِهِ مدافعَين عن هذه المنظومة القيمية. إلاّ أنّ مبادئ المواطنة والتضحية والتفاني في حماية الوطن، التي يتغنّى بها الشريط، تسقط تمامًا حين يَنْشُدها غير الأميركيين من الشعوب، وتصبح إرهابًا وأصوليّة ويُصار إلى مُحاربتها، باعتبارها تطرّفًا وشوفينيّة، وهذا هو ذاته مبدأ الكَيْل بمِكيالين الذي غالبًا ما يُصمت عنه.

استعادةٌ لتمثيلات ثقافيّة صنعها الخطاب السياسي الأميركي

وكأنّ المخيال الجماعيّ الأميركي لا يعيش إلّا بمُقابلٍ ضدِّيّ ما، ولا تقوى شوكته إلاّ بوجود عدوّ معارض، تُلصق به كلّ النقائص والمثالب التي لا يودّ رؤيتها لديه، في عمليّة تطهير جماعية للذات، وذلك تُزال منها تلك النقائص من أجل إلصاقها بالآخر، حتى تقوّيَ لديها الشعور القومي، وهذا ما يفسّر الحضور الدائم للعَلَم الأميركيّ في كلّ مراحل الشريط، وانهزام المعتدين (الروس) في آخر المطاف.

ليست صناعة السّينما وحَبْكة الأفلام من بَريء الأعمال. بل هي خطابٌ كسائر ما ينتج المجتمع الأميركيّ من خطابات، حسب التّحديد الذي صاغه ميخائيل باختين (1895 - 1975)، لنشر المقولات السّائدة فيه وتوجيه الرأي العام. وحتّى الإثارة الرّخيصة والحركة المكرّرة، مثل ما شاهدناه في هذا الفيلم، لا تَعدُو أن تكون مجرّد غطاء لمكوّنات أيديولوجيّة صغرى idéologèmes تحرّك الفاعلين من أجل ترسيخ مبدأ التفوّق الجبلّي للفرد الأميركيّ ووقوفه في وجه الشرّ.

في هذه الأيّام الأخيرة، حوّل الخطاب السّينمائي صورة "الشرير" وألْصَقَها في سذاجَة قاتلة بِالرّوس، ولا ندري لماذا لا ينقل هذا الشريط وغيره تعقّدات الأوضاع الجيوسياسيّة ولماذا يكتفي بتمثّلات أخلاقيّة وأخرى شعبويّة لترسيخ المركزيّة الأميركيّة وتحقير بقيّة العالَم. الحَسَنة الوحيدة لهذا التحوّل أنّه مكّن المُسلمين من استراحة قصيرة، فليسوا الآن في مرمى السّهام المباشرة للفوبيا الغربيّة. عَوّضهم الروس، وغدًا قد يأتي الصّينيون. هي استراحة إلى حين.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون