سرديات قاتلة

31 أكتوبر 2023
متطوع في الهلال الأحمر الفلسطيني يحمل طفلاً جريحاً إلى مستشفى الشفاء بغزة، أول أمس (Getty)
+ الخط -

إجماعٌ على واجب المقاوَمة الثقافية. هذا ما ذهبت إليه أفكار كتّاب ومثقّفين عرب من مختلف الأجيال والمشارب، ممّن استطلعت "العربي الجديد" آراءهم حول ما يُمكن للثقافة العربية أن تُقدّمه وما هي أدواتها لخدمة قضاياها، وفي طليعتها قضية تحرير الأرض والإنسان التي تدور رحاها الآن في فلسطين معمّدة بدم أبنائها.


بالتوازي مع حرب غزّة وأهوالها العسكرية، تدور حربُ سرديّات تصف ما يجري على أرضية الواقع بهدف التأثير في الجمهور العريض. يُقدِّم الطرف المعتدي روايةً للأحداث ليس فيها من البراءة والصدق ذرّة واحدة. ولا يمكن أن نفترض فيه من صفاء النية أو من الحياد أيّ مقدار، ويجري بعدها التسويق لهذه المحكية على نطاق واسعٍ، يُنشئه السياسيون والعسكريون ابتداءً، مع أنّهم لا يُدلون بتصريحاتهم إلا بتوجيهٍ من محرّرين مُختصّين في فنّ التواصل والإعلام الحربي، حيث توزَن كلُّ كلمة بميزان دقيق.

ويتلقّى بعد ذلك الصحافيون و"المفكّرون" والمعلّقون هذه الرواية ليبثّوها في وعي المتلقّي، وهو الخامل بطبعه، كبداهات يقينية، وقد حُدّدت أهدافُها ضمن استراتيجية شاملة. وليس الخطر في هذا التسلسل المدروس بدقّة، وإنما في الصيغة المقدَّمة التي يتعهّدها هذا الطرف ويراقبها حتّى تظلّ متماسكة وفاعلة في مخيال الجمهور الذي تفترض منه ردّات فعل معيّنة.

وأمّا السرّ الدقيق الذي يختفي وراء هذه العملية، فهو مبدأ الاختزال المُطلَق في الرواية؛ حيث يُقتصر على الجزء الذي يُراد إظهاره من جبل الثلج: "إرهابيّون تسلّلوا لقتل الأبرياء الذين لهم الحقّ المشروع في الدفاع عن أنفسهم". لكن ما لا تقوله هذه الرواية التبسيطية أنّ وراء الهجوم حركية شعبية ورسمية تناضل من أجل تحرير أراضٍ محتلّة باعتراف الأمم المتّحدة ذاتها، وأنّ مستوطنين استحوذوا على تلك الأراضي وطمسوا أسماءها. وللتذكير، اشتُقّت مفردة مُستوطِن من فعل "استوطن" الذي يدلّ، بفضل السّين والتاء، على معنى اعتبار أرضٍ ما وطناً ووجدانها كذلك، حتى وإن لم تكنه في الواقع والقانون.

الحقيقة التي لن تٌحوّر جوهرها أنّ حرب غزّة أكبر امتحان للإنسانيّة

ولا تقول السردية إنّهم ينالون محفّزات كبرى من أجل البقاء في تلك المناطق واستغلال خيراتها، وإنّهم لم يتوقّفوا عن إلحاق أشنع الفظاعات المدانة بالقانون الدولي بالسكّان الأصليّين للأرض وبإخوانهم الذين يعيشون في المناطق الأُخرى، وإنّ عقوداً طويلة من التظاهر السلمي والمَسِيرات والهتافات والقِمم الرسمية والتفاوض لم يفلح أيُّها في لجم "نَهَم الاحتلال"، الذي لا حدّ له. كما لا تذكُر هذه المحكيّات أنّ هؤلاء المستوطنين مسلّحون، وأنّهم لم ولن يتورّعوا عن قتل أحدٍ كلّما سنحت الفرصة، يُطلقون الرصاص على الظنّ ويقتلون بالتهمة والهَوَس، ولا حسيب لهم من رادعٍ داخلي ولا من استنكار خارجي.

هكذا، تنبني هذه الروايات على ثنائيّة فاعلَي الخير والشرّ في مقاربة سطحية، تمنع من رؤية التعقّد الذي يسم مثل هذه الوضعيّات التي تُختزل إلى تقابُل جوهراني بين الخَيِّر والشرّير، الطيّب والرديء، المسالم والإرهابي. وعلى العالَم بعدها أن يتقبّل نتيجة هذا التصنيف الثنائي وما يمكن أن ينجرّ عنه من أشكال التدمير، لأنّها تُطاول الشرّ والإرهاب، ولا مُشاحَّة في القضاء عليهما، تحت غطاء سميك من القانون الدولي الذي لا يُستحضر إلّا في وقت الحاجة، ثم يختفي إلى حين.

ويشمل مفتاح الاختزال هذا آليات الرواية ونَقل الحدث بما في ذلك اختيار المفردات وطرق تراكيب الجُمل والتصرّف في مكوّناتها تقديماً وتأخيراً، حذفاً وإظهاراً، علاوةً على صياغة الصور البيانية وغيرها من مواد التأثير التي تصنع وجهة نظر مركَّزة، يسمّيها علماء السرد "البؤرة" في ترجمة لمصطلح (Focus) الآتي من تقنيات التصوير السينمائي، والتي تحجب ما سواها من الأجزاء الأخرى للصورة، إذ لا تنقل إلا ما يُسلَّط عليه الضوء. ومن البديهي أنّ التبئير ليس بريئاً، فهو يهدف إلى إبراز ما يروم صاحب الخطاب التشديد عليه. وفي المقابل، تغيب العناصر التي لا تلائم خطابه ولا يراد لها أن تُرى ولا أن تُسمع.

نعم، فالاختزال لعبة صوتيّة قاعدتها أن تجعل صوتاً ما يطغى على سائر الأصوات أو ينطقها بما يُراد إسماعه للجمهور، لأنّ الهدف أن يهيمن خطابٌ أوحد لا يُناقَش ولا يُعارَض، يبثُّ ضجيجاً يملأ الآذانَ والوعيَ ولا يترك حتى مجرّد الصدى يعلو، ضمن التنافس على امتلاك الساحة السمعيّة- البصريّة وفرض الصوت الأوحد، حتى تكون السرديّة ضرباً ماكراً من "الاحتلال" الذي يستحوذ على مساحات التعبير كلّها ويتصرّف في تضاريسها، كما لو كانت ملكاً مشاعاً لا يجوز لأحد سواه أنّ يصدع فيه بأدنى كلمة.

كما تجيز لعبة الاختزال التمويهَ والاختلاق الصريح للأحداث، بل لعلّه قاعدتها الرئيسة، وهذا ما جرى في مأساة "المستشفى المعمداني". ومن أعجب مظاهره أنّ سلطة في حجم رئاسة الولايات المتّحدة الأميركية تؤكّد رؤية رؤوس مقطوعة وتلقيها ثيمةً حارقة في خضمّ صراع الفظاعات. لحسن الحظّ، ورد التكذيب سريعاً من مؤسّسات هذه الدولة ذاتها في ارتباكٍ مقصود؛ إذ الغاية الخفيّة من ذلك هو تمييع القضية وتحويلها إلى موضوع مماحكة وتنافس سرديّ يقتل جوهر الكارثة ويحجبها في ثنايا التكذيب والردّ عليه، ثمّ الردّ على الردّ ونقضه بلا نهاية حتى يتشتّت الوعي ويتيه، وهدف ذلك إسكات صوت الحقيقة وخنق الرواية الأصلية المطابِقة لما حصل فعلاً.

فما يجري اليوم في غزّة وما أسفر عنه من روايات دليل قاطع على مدى حيويّة آلية الاختزال التي تُلهي الأسرة الدولية عن ارتقاء المئات دفعةً واحدةً، وتنصبّ الخطابات والنقاشات على الترجيح بين الروايات وانتقادها واستحضار زواياها، كأنّ شغل السياسيّين ورجال القانون والخبراء العسكريّين هو تحليل الخطاب والاشتغال على مبانيه، لا إيقاف الحرب.

ومع ذلك، فالحقيقة التي لن تدلّسها المحكيات ولن تحوّر جوهرها أنّ حرب غزّة أكبر امتحان للإنسانيّة ولا سيما مثقّفيها وسياسيّيها، وهي تفرض الحدّ الأدنى من التعامل الإنساني الذي يجب أن يتعالى، ولو للحظةٍ، على زبد المزايدات السرديّة وحِيَل تشكيل الخطاب ومكر اختيارات المعجم والصُّور. ثمّة آلاف من أرواح الأبرياء أُزهقت وكانت تُزهق من سبعة عُقودٍ، بمرأى ومسمع من الجميع في ظل احتلالٍ بغيض يُمارَس على شعبٍ وأرضه، فلا مكان لروايات، حتى وإن بُرع في تجميل حِبكتها، من أن تُغطّي على ما حصل ويحصل. ولن تحجب ضخامة الآلة الإعلامية التي تسوّق لهذه المحكيات تهافتَها ولا فظاعة ما يلحق بغزّة وأهلها.

ولن يقدر أحدٌ على التخفيف من الآلام الواقعية التي يُخلّفها الموت والدمار فوقْعُها موجعٌ، لكن من الضروري أن ندرك أنّ معركة السرديات وأدوات ترويجها لا تقلّ خطورة، وأنّ الصورة والكلمة لهما أسرع الأثر في الضمائر والعقول، ولذلك يجب خوضُها حتى تتعادل الكفّة وتطّلع بقيّة العالم على الصوت المقموع والجهة المحجوبة. وقد أدرك العرب هذه الرهانات فعلاً، فخاضوا معركة التواصل بمهارة وصدقيّة. وبفضل روايتهم الموازية التي كتبوها بالدم، باتت أصواتٌ تُغنّي خارج السرب الغربي وتُحدث شقوقاً في الصرح الكرتوني الذي شيّده الاحتلال على الأضاليل.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

هذه المادّة جزءٌ من ملفّ تنشره "العربي الجديد" بعنوان: "الثقافة العربية واختبار فلسطين... ما العمل؟".

لقراءة الجزء الخامس من الملفّ: اضغط هنا

المساهمون