بعد الثورات المضادة

بعد الثورات المضادة

16 يوليو 2023
منذر جوابرة/ فلسطين
+ الخط -

"المواطنة" بمعناها الحديث مفهوم غربي، وُلد وترسَّخ بعد الحرب الأوروبية الثانية، وخصوصاً في الغرب، بينما كانت جذوره الأولى قد تشكّلت كهيولى بعد انتصار الثورة الفرنسية الكبرى.

أما بعد: فلو فكرنا في هذا المفهوم الغريب عنّا، منذ كان وإلى اليوم، وقارنّا حالهم بحالنا، فلا مفرّ من الاعتراف بأنّه مفهوم لا علاقة لنا به الآن. إنّه مفهوم انبثق بعد ولادة الفرد هناك، عبر مصفوفة من القيم طاولت السياسة والاجتماع، واستتبعت نضالات وجهداً وتعباً، طوال قرون، كي تتكون. 

أما نحن، فلو أخذنا المفهوم من غير سياقه التاريخي الغربي، وأسقطناه على حالنا، وخاصة بعد الثورات المضادّة التي حدثت وتكرّست بعد الربيع العربي، لقلنا إننا نعاني من إهدار حق المواطنة منذ الولادة. فلا مواطنة لأي شخص في عالم يخلط الدين بالسياسة وعلى رأس كليهما دكتاتوريات، ولا مواطنة لعالم بعد خلط هذين الحقلين، يغدو حقيقةً بصفر سياسة. ولا مواطنة في عالم حكّامه طالعون من شفق الآلهة، مع أنهم طُغاة صغار ويتبعون تابعي القوى العظمى. لا مواطنة في عالَم من الفوضى، والفقر المُدقع، وقلّة الوعي العام، وتخيّل أننا أفضل الناس، لهذا السبب أو ذاك.

وبما أن لا مواطنة، فلا فرد ينبثق من صراعات التاريخ، وعليه، فلا جماعة أيضاً، ولا اجتماع، ولا مجتمع، ولا دولة، لها قوة ناعمة أو خشنة. فقط هنالك أدب يكتبه مقهورون، وهنالك مقهورون مُهانون مُذلّون ـ بتعبير ديستويفسكي ـ يعيشون حياتهم كيفما اتّفق، بوصفهم السواد الأعظم من الناس، دون زفير شكوى كثير (لأنهم سئموا من الشكوى)، ودون حتى عتب ولا عُتبى! أمن قليلٍ نحوز دوماً تشخيصاً سيئاً؟ أمن قليل أننا خارج قطار التاريخ؟ أمن قليل أننا في ذيل كلّ قائمة؟

لقد حاول الربيع العربي، أن نلتحق بالقطار، لكنّ قوى الغرب بالتعاون مع سفلة الداخل، أحبطوا المحاولة، وردّونا إلى أسفل سافلين، حتى وصل الحال بالناس، للترحُّم على دكتاتوريات ما قبل الربيع، وتكوين نوستالجيا تجاههم، وذلك لسبب بسيط: إنهم أقلّ سوءاً وكارثية ممن جاؤوا بعدهم.

لقد غُدِرَ الربيع العربي، من الرُّوم وسوى الرُّوم، وها هي دُولنا تلفظ لاجئيها على بحر صار مقبرة، وعلى ملح أمواجه، التي هي أخفّ من ملح الدموع، وعلى دول لا تريدنا، فتغرقنا في عرض البحر.

مآل أسود، هو ما نحن فيه، وليس ثمة من دلائل تُشير إلى خفوت اللون، بل العكس. فلا مكان لتابع في التاريخ، ولا مستقبل لمولود جديد، سيشبّ بسوء تغذية وبتعليم فاشل، كي يعاني ما لم يعانه أبوه أو جدّه. مولود سيغترب أكثر، كلما عاش. وسيشعر بالهزيمة الحضارية أمام جيرانه على الضفة الشمالية من المتوسط. مولود بلا غد، وحتى لو انتكس واجترّ ماضيه، كملاذ أخير في عالم يتوحّش، فلا طائل من وراء ذلك. مولود سيكون حاكموه أسوأ من حاكمي وقتنا هذا، وسوف يجيء زمن (أو قد جاء فعلاً) ويفتخرون بمدى جَوْسَستهم، لعدوِّهم التاريخي.


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية

المساهمون