قال كريستيان غراتالو في كتابه "هل يجب التفكير في تاريخ العالَم بطريقة أُخرى؟": "إنَّ التاريخ الرسميّ العالمي رجعُ صدىً لتاريخٍ فُرض على العالَم من قبلِ المؤرّخين الأوروبيّين، فقد سُمّيت الحرب الأولى التي نشبت بين دول أوروبا 'الحرب العالمية الأولى'. ثمّ سُمّيت الحرب الثانية بينها بـ'الحرب العالمية الثانية'"، بينما لم يشارك في كلتا الحربين أكثر من ثلاثة أرباع العالم، ومعظم الجنود غير الأوروبيّين كانوا مجنّدين قسراً من المستعمرات. بل إنَّ تقسيم العالَم، جغرافيّاً، إلى قارات هو تقسيمٌ أوروبيٌّ، ومن المستحيل اليوم الاعتراض على تلك التقسيمات، أو إعادة رسم خرائط العالَم، إلّا في المجال السياسي، بينما انتهى تقسيم القارّات كما رسمها جغرافيّو أوروبا.
لا يبتعد كاتبٌ ديمقراطيّ، ومتفهِّم، مثل شتيفان تسفايغ عن هذه المفاهيم، فحين يكتب عن "بُناة العالم" (هذا عنوان كتابه المترجم إلى العربية)، في الحقل الأدبي، فإنّه يختار الكتّاب الأوروبيّين وحدهم: هولدرلين، ودوستويفسكي، وبلزاك، وتولستوي، وديكنز، وستندال، وكلايست. فهؤلاء ليسوا بُناة أوروبا فقط، في رأيه، بل بناةُ العالَم كلّه. صحيحٌ أنَّ تأثير معظم هؤلاء قد امتدَّ على مساحة العالَم بالفعل، بعد أن تُرجموا وقرئوا على نطاقٍ واسعٍ، غير أنّ كثيراً من الشعوب في الأرض لم تتتلمذ على أيديهم، أو لم تتتلمذ أو تبنِ هندستها الروحيّة على أيديهم وحدهم. لليابان ثقافةٌ خاصّة امتنعت تقريباً عن الرضوخ، وللصين ثقافةٌ ضاربة في عمق التاريخ، ولأفريقيا كُلّها، وكذلك للعرب ثقافتهم الشعرية المعمّرة. وبعض هؤلاء الكُتَّاب لم يترجَموا قبل منتصف القرن العشرين إلى العربية.
تسعى السرديات الروائيّة إلى مخالفة التأريخ الأوروبي، عبر إعادة إخراج، بالمعنى السينمائي، العناصر التي كوّنت تاريخ كلّ بلدٍ
وتسعى السرديات الروائيّة، خصوصاً التي تنتمي إلى ما يُعرف بـ"الردِّ بالكتابة"، إلى مخالفة التأريخ الأوروبي، وذلك عبر إعادة إخراج، بالمعنى السينمائي، العناصر التي كوّنت تاريخ كلّ بلدٍ. وفي هذا المجال تبرزُ أهمية الرواية التي يُطلق عليها اسم "الرواية التاريخية"، التي تُعيد كتابة التاريخ لنقض سرديتين معاً: السرديّة الأوروبية التي تعمّمُ منطقها ورؤيتها على العالم، والسرديّة المحلّية التي قد تُزوّر التاريخ لمصلحة رغبات السلطات الحاكمة. ولكنَّ الرواية وحدها لا تستطيع أن تحقّق تأثيراً نوعيّاً نافياً أو مناقضاً للترسيم الأوروبي.
وأكثر الأمور إثارةً، هي أنَّ المفكّرين الغربيّين هُم في الغالب مَن ينقضون فكرة أوروبا عن العالم، بينما يكتفي المُعادون للغرب، خارج أوروبا، بالجانب العنصري من الفكرة: فكرتهم عن أوروبا وفكرة أوروبا عنهم.
غير أنَّ التغيّر في هذا الحقل بطيءٌ جداً، ولا تزال بلدانٌ كثيرةٌ، كما لا تزال ثقافات أو مثقّفون كثيرون، يعتبرون الاعتراف الأوروبي بهم حَكماً على الأهمية والمكانة، ومساعيهم لا تتوقّف للحصول على هذا الاعتراف، ومن الصعب عدم الإقرار بهذا الوضع حتى اليوم. وفي معظم المقترحات التي يُقدّمها كتّاب ومفكّرون عرب للترجمة إلى اللغة العربية، تتصدّر أوروبا والمفكّرون والكتّاب الأوروبيّون القوائم. ويستند هذا إلى "القناعة" الضمنية، أو إلى التماهي المستسلم للواقع الثقافي العالمي الذي يعتبر المركز الغربي، أو الأوروبي، هو الوحيد القادر على وضع القواعد، وإجراء امتحانات القبول في صفوف الرواية بعالمنا.
* روائي من سورية