النسيان

النسيان

19 ابريل 2018
+ الخط -
لسنا مجبرين على أن نكون كما نحن عليه دائماً وفرصة التغيير متاحة أمامنا ما دمنا على قيد الحياة، ولهذا دعني أخبرك أنني لست في حاجة إلى تذوق قهوة إلى جانبك، ولا إلى مشاطرتك قهقهات عالية.

والمشي على شط البحر لا يغريني أبداً، حتى وإن كان الغروب مخيماً في السماء، تقاسمك معي أكلتك المفضلة، وإحضارك لي الشوكولاتة أو غيرها، ليس بالأمر المميز الذي يجعلنا مقربين أكثر من غيرنا.

اعذرني إن رفضت أن أحتسي قهوتي الثانية في نفس المقهى الأول، ولا تؤاخذني إن رأيتني أغير الأماكن بسرعة، فأنا أختار أماكني بعشوائية... تقاسم الأغاني وتعليق اسمينا بأغنية معينة أمر ممل أيضاً، أنا مصابة بفقدان الذاكرة، وأشياء كهذه لا أمنحها الفرصة حتى أرسخها في عقلي.


هوايتي... ليست لي هواية أحدثك عنها، ولن أرسل إليك مستجدات كتاباتي اليومية، فأنا لا أعتبرك نفسي، حتى أمنحك كل هذا القرب.

احمرار الخدين والهروب من النظرات والخجل لا تعتريني، فأنا أضغط على نفسي حتى لا يظهر هذا الجانب من شخصيتي لأنه يترجم بضعف. عفويتي "المعشوقة" من الماضي، ولا أجد في وجودها غير الاستغلال.

باختصار أنا لست في حاجة إلى تفاصيل دقيقة أعيشها مع أحد غير شخصي، وأنا أقبل بك كأحد "معارفي" الجدد، وأبداً لست بصديق ولا بحبيب ولست في خانة الدائمين وربما أنسى اسمك في لحظة سهو، لذلك لا تهتم.

قد تمطر بدون سابق إنذار وتبتل ملابسي وأصاب بنزلة برد، هذا أمر بديهي في فصل الشتاء، لهذا لا تجعل منه سبباً عظيماً لتحذيري من نسياني معطفي في المرة المقبلة، ولا تتصرف كطبيب الحدث وتنصحني بمشروب الزنجبيل، فأنا ناضجة بما يكفي لأقرر ما أفعله. وخروجي في الشتاء بدون معطف هو قصد وليس سهواً.

المواقف الدافئة كهذه جميلة يا سيدي لكنك أخطأت الاختيار، فذلك فعل يليق بمن ستجاورهم لمدة طويلة وأنا مارة من هنا فقط. لا أتذكر شيئاً لمجرد أنني تجاوزته.

شخصية فيلم ما بنفس تفاصيل شخصيتي، كثيرة البكاء، سريعة الرضا، بريئة المظهر ولامعة العيون... كل هذا تشبيه أنا لا أتذكره مهما بالغت في سرده أمامي ولن تستعجل أناملي تدوين عنوان الفيلم كي أشاهده كأنني مهتمة باكتشاف شخصيتي من خلال تشبيهك ذاك.

مصابة بالسطحية، والتفاصيل الصغيرة لا أتذكرها بتاتاً. عطرك الذي تحاول الإفراط في استخدامه حتى يسكن حيزاً من ذاكرتي أمر مضحك، فذاكرتي مؤقتة وليس فيها نظام التخزين العميق، راكدة المشاعر، لا أغرم ولا أعجب ولا يلهمني الاهتمام الزائد، طعم الصور بالأبيض والأسود مقارنة بالصور الملونة عندي سواء، ولا أمتلك متلازمة السبعينيات بأغانيها وألحانها الطويلة.

لا يزورني طيف أحدهم صدفة ولا أستيقظ ليلاً اشتياقاً لنبرة صوت. فلا تحاول الاتصال بي على ضوء القمر فردي كالسكير، وإغلاق الخط في وجهك لن يعجبك كثيراً. لا تستغرب ففعلك ذاك ليس أكثر أهمية من نومي العميق.

لا تحزن لتوديعي يوماً في سفرك كأن الظروف أجبرتك على الذهاب ونصفك الثاني باقٍ إلى جانبي، فليست مهتمة بحركات الحسرة والحزن على الفراق، لنكتف برافقتك السلامة. هذا إن تذكرت تاريخ رحلتك.

وشم الأبدية لا يليق بمعصمي، ليس لأن معصمي عديم الوفاء بل لأن الأبدية كذبة صدقها الشباب حتى أصبح الكل يعاتب الراحل على رحيله، وعلقت عليه سيناريوهات الماضي ولقب وخز الذكرى فيه بالحنين والنوستالجيا، وكم هو ممل العيش على ما مضى وتصفح لحظات بهت لونها بفعل الزمن وما أسأم الجلوس على عتبة الانتظار وكأن اليوم عائد غداً، وسن البارحة نفسه اليوم.

فقدان الذاكرة مسلٍ جداً، يجعلك تجدد الأماكن كثيراً، وفي كل زيارة لنفس المكان لا تجده مألوفاً، لا يترك انطباعاً ولا يقيدك به، فقدان الذاكرة يخلصك من العادات ويحميك من التعود أيضاً، يشفيك من الإدمان، فحتى طعم قهوتك لن يكون نفسه ولن تطلبها سادة في كل مرة، وربما تطلب شوكولاتة بالحليب أو شاياً.

وهكذا أكون أنا - لست أنا - عندما أصاب بالنسيان!