مؤانسات رمضانيّة (8) ذكاء ياباني وغباء إدلبي

مؤانسات رمضانيّة (8) ذكاء ياباني وغباء إدلبي

09 يونيو 2017
+ الخط -
في إحدى الليالي تحدث الأستاذ كمال الطبنججي فقال:

قبل عشرين سنة من الآن، كان كل شيء في بلادنا بسيطاً وثابتاً كشروق الشمس وغروبها الأزليين. وكانت الأسعار رخيصة، وراتب الموظف من الدرجة الأولى يكفي لشراء منزل طويل وعريض، بلكون أول، اتجاهاته شرقي وجنوبي وغربي، يستقبل الشمس عند الشروق ويودعها بأمان الرحمن عند الغروب، مُنَجَّر ومُبّلَّط ومُدَهَّن، أبوابه ألمنيوم أوكروديون، ورفوفه مرمر وسيراميك.. ويشتري، بجزء من ذلك الراتب المفترض قطعة من الأرض القريبة من البلدة، ويزرع فيها ما يلزم لاستهلاكه اليومي من بندورة وخس وفليفلة وعجور وكندور، ثم يقف مع نفسه وقفة عز وشرف، فإذا تبين له أنه إنسان نبيل وابن أصل، فإنه يشتري بجزء مما يزيد من ذلك الراتب إسوارة ذهبية لزوجته، ابنة عمه، أم أولاده، وإذا كان قليل أصل، حاشاكم، سرعان ما يحرق فؤاد زوجته إذ يحضر إليها الضُرَّة المرة، وأما الجزء الأخير من ذلك الراتب الهائل فيدحشه في المخدة وينام عليه من أجل غدرات الزمان.

غير أن مبلغاً بهذه الضخامة لم يكن يمتلكه إلا ذوو العزم من الصناعيين البكوات أصحاب المعامل، وأما الآغوات الإقطاعيون فكانت أملاكُهم كلها ذات طابع عيني، فلو أراد إقطاعي ما أن يحصل على ما يعادل راتب موظف درجة أولى يسارع إلى عرض بعض أملاكه للبيع، ولكنه لا يجد مَنْ يشتريها منه، لأن المثل يقول: "الجَمَل بقرش عتماني وليس معنا قرش عتماني!".

قال أبو نادر: والله هذا الكلام صحيح. أنا أشهد.

قال كمال: إن هذا الواقع الاقتصادي الساكن يقابله سكون في الواقع الاجتماعي، ودهشة تصل إلى حدود البلاهة حيال المخترعات العلمية المستوردة من الغرب، كجهاز الراديو الكهربائي هذا (وأشار بيده إلى جهاز الراديو الكبير الموضوع فوق رف خشبي في زاوية من المقهى). فأنتم، بلا مؤاخذة، طارت عقولكم من قرعات رؤوسكم حينما جاء به أبو قدور صاحب المقهى، لأول مرة، وجلستم تستمعون إلى نشرات الأخبار وتمثيليات أبي رشدي وأبي فهمي ودرة وأم كامل، وبعض الناس الذين اشتروا راديو منزلياً صاروا يدورون حوله ويختلسون النظر إلى داخله من الخلف، معتقدين أنهم سيرون جانباً من الحياة المصغرة للبشر الذين يغنون ويتكلمون ويمثلون في داخله، فلا يرون إلا الأسلاك والأزرار والوصلات والفيوزات. ما الذي حصل في ذلك الحين؟

قال أبو مراد: ماذا حصل؟

قال: هتفنا جميعاً "سبحان الله، علم الإنسان ما لم يعلم".. حسناً، أنا الآن سأسألكم سؤالاً ولعنة الله على كل من يلف ويدور ولا يجيبني عن سؤالي بصراحة.

قالوا له: تفضل اسأل.

قال: نحن العرب، وأهل اليابان، والألمان، والإنكليز، والأميركان، والطليان، والروس، كلنا بشر، خلقة الله. هل يوجد في هذا الكلام كلمة زاحلة أو زائحة من مكانها؟!

قالوا: لا والله.

قال: فلماذا يعلم الله سبحانه وتعالى الإنسانَ الياباني والألماني والإنكليزي والطلياني والأميركاني ما لم يعلم، ولا يعلمنا نحن العربَ ما لا نعلم؟

وقبل أن يتمكن أحد من الموجودين من الرد عليه استأنف يقول:

- تفسير هذه الآية الكريمة برأيي هو التالي: إن الله لم يعلم الإنسان ما لم يعلم على نحو مباشر، بل إنه وضع العقل في رأسه وتركه وشأنه. وعلى الفور، شغل اليابانيون والألمان والإنكليز والطليان والأميركان عقولهم وشرعوا يفكرون ويخترعون ما يلزم لهم في حياتهم ولأجل دنياهم وآخرتهم، وأما نحن، فتركنا عقولنا دون استعمال، فضمرت وصغرت وكادت أن تضمحل.

أبدى أبو نادر زعلاً كبيراً من الأستاذ كمال، وقال له:

- أريد أن أفهم بأي حق توجه لنا أنت كل هذا اللوم التقريع؟ إنك تتكلم معنا وكأننا أغبياء طلطميس، بينما أنت الفهيم المفتح. إذا كنت كذلك بالفعل تفضل فاشرح لنا كيف يشتغل هذا الجهاز الذي يخل العقل الذي يسمى الراديو.

قال أبو كمال: حقيقة أنا لا أعرف بالضبط، وأنا لم أقل ما قلته لأدينكم، وإنما أنا أتحدث عن حالة الجهل العامة التي تترافق مع ادعاء العلم والفهم.

(يعود تاريخ هذه الحكايات إلى ما قبل ربع قرن من الزمان)
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...