فلسطينيون في إدلب وجميلة بوحيرد عند بشار الأسد

فلسطينيون في إدلب وجميلة بوحيرد عند بشار الأسد

23 أكتوبر 2023
+ الخط -

خلافاً للمعتاد، كانت نسبة المرح في لهجة صديقي "أبو سعيد"، خلال اتصاله الأخير بي عبر "واتساب"، منخفضة. وقبل أن أسأله عن السبب، أوضح لي أنّه حزين على ما يجري في غزة، وقلق مما قد تؤول إليه الأحداث من كوارث، وما سيلحق بالمدنيين الفلسطينيين من أهوال، وأضاف أنّه، منذ نعومة أظفاره، متعاطف مع هذا الشعب (العظيم).  

قلت: لا يوجد لديّ شك في صدق عواطفك، يا أبو سعيد، فأنت مثل معظم السوريين، طيّب، وحبّاب، ولديك إنسانية عالية، ولكن، ولكي يكون كلامنا دقيقاً، ليس من الحكمة أن نصف شعباً كاملاً بأنه عظيم، أو رائع، ففي كلّ شعب تشكيلة واسعة من البشر، كلّ واحد منهم شكل، ولون، وذو طباع تختلف عن طباع الآخر، يعني باختصار، فيهم الصالح والطالح والـ بينَ بين.. وأنا، شخصياً، أستغرب إلحاح بعض الناس الخطابيين الإنشائيين على وصف الشعب السوري، مثلاً، بأنّه (عظيم)، فمن خلال رؤيتي المتواضعة للشعب السوري، وشعوبنا العربية كلّها، وجدت أنّها طيّبة، وغلبانة، و(عايفة رد السلام)، وغير متقدّمة حضارياً، فمن أين جاءتها العظمة؟ وإذا قال لك أحدهم إنّ حضارات سابقة قامت فوق أرضها، كالدولة الأموية مثلاً، يمكنك أن تسأله: وهل قامت تلك الدولة باسم (سورية)؟ وهل كانت سورية، بحدودها الجغرافية الحالية، موجودة قبل التقسيمات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى؟ 

ليس من الحكمة أن نصف شعباً كاملاً بأنه عظيم، أو رائع، ففي كلّ شعب تشكيلة واسعة من البشر، كلّ واحد منهم شكل، ولون، وذو طباع تختلف عن طباع الآخر

لم يعلّق أبو سعيد على كلامي، فاستدركت قائلاً:

- المهم، ولكي لا ندخل في ميدان التنظير السياسي، دعنا نتكلم عن وجود الفلسطينيين في سورية، وبالأخصّ عندنا، في محافظة إدلب، فقد يكون هذا الأمر مفيداً وممتعاً أكثر.

- معك حق أبو مرداس، وعلى علمي أنّ بعض الأسر الفلسطينية موجودة في إدلب منذ سنة 1948، وهم ليسوا كثيرين، لأنّ الهجرات كانت تأتي من الجنوب، فتستوطن المدن السورية الجنوبية، بينما إدلب في أقصى الشمال. وعلى العموم، الفلسطينيون يشبهوننا من جهة طيبة القلب، وحسن المعاشرة إلى حدّ غريب، يعني إذا جاء رجل غريب إلى مجلس منعقد في إدلب، ولم يخبره أحد أنّ فلاناً وفلاناً من الموجودين أصلهما فلسطيني، لَمَا عرف ذلك بحدسه الخاص.. 

- كلام دقيق.

- كان لنا جار في إدلب هو العم أحمد قبّيعة، أبو خليل، وأولاده، وكنّا أصدقاء.. هل تعرف خليل قبيعة؟

- لم ألتق به شخصياً، ولكن سمعت أنّه كان يشتغل بالتمثيل المسرحي، وأنّه مثّل بعض الأدوار مع مفيد نحات، وجسور فنري، واشترك مع المخرج الصديق مروان فنري في ثلاث مسرحيات من تأليف الراحل عبد الفتاح قلعجي، وحينما تولى محمد نجيب سيد أحمد وزارة التربية، ذهب معه إلى دمشق، ووظفه أبو نجيب في الوزارة، واستوطن دمشق. وكان جاري في حارة المساكن الشعبية بإدلب، شقيقه نديم قبيعة، أبو سومر، بالإضافة إلى أحمد خاسكي الذي كان جاري وزميلي في دائرة الرقابة المالية، ولعلمك فإنّ هناك زيجات متبادلة بين الطرفين كانت تحصل دون أي تمييز.. وتعرّفت، قبل مغادرتي إدلب، على رجل فلسطيني رائع من آل الدغيم، كان يعمل في المصرف المركزي. وأذكر، عندما كنت صغيراً، أنّ إحدى العائلات الفلسطينية كانت تعيش في معرة مصرين، وعندما كبرت لم أعد أراهم، ويبدو أنهم انتقلوا إلى بلاد أخرى. ولكن الأكثر قرباً منّي، عموماً، هو سهيل نور، أبو أسامة، الذي كان بعثياً، وعينوه مديراً لدائرة الثقافة في إدلب، وكنّا نلتقي به أنا وتاج الدين الموسى والخوري إبراهيم فرح، وذات يوم، سافر سهيل إلى دمشق ليلاً، ليزور والدته، وفي الصباح جاءنا خبر تعرّضه لحادث سيارة، أدى إلى وفاته. 

الفلسطينيون يشبهوننا، نحن أهل مدينة إدلب، من جهة طيبة القلب، وحسن المعاشرة إلى حدّ غريب

- لديّ فكرة أعتقد أنها مهمة، يا أبو مرداس، وهي أنّ أبناء الشعب السوري، عدا عن ترحيبهم باللاجئين الفلسطينيين، ومعاملتهم كما لو أنّهم من سكان البلد الأصليين، كانوا يعيشون مأساة الفلسطينيين بكلّ جوارحهم. ما رأيك؟

- نعم. صحيح. والسوري لم يتعاطف مع الفلسطينيين وحدهم، بل مع كلّ الشعوب العربية، ففي الستينيات، وأنا أذكر ذلك جيداً، كان السوريون يجمعون التبرعات للثورة الجزائرية، وفي المدرسة الابتدائية كنّا نردّد النشيد الوطني الجزائري يومياً:

قسماً بالنازلات الماحقات 

والدماء الزاكيات الطاهرات

والبنود اللامعات الخافقات 

في الجبال الشامخات الشاهقات

نحن ثرنا فحياةٌ أو ممات 

وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر

فاشهدوا.

وبعض أهل بلدتي، معرة مصرين، كانوا يتبرّعون للجزائر ببعض الثياب، تحت عنوان "معونة الشتاء"، وبعضهم كانوا يسافرون إلى حلب، لمشاهدة فيلم عن المناضلة جميلة بوحيرد، في السينما، وعندما يعودون كنّا نلاحظ انتفاخ أعينهم، من شدّة البكاء، لأنّ الفرنسيين (في الفيلم) كانوا يعذبونها جسدياً، والعائدون من السينما كانوا يحكون لأهاليهم، عن أحداث الفيلم، فيبكون هم الآخرون.. 

كان السوريون يجمعون التبرعات للثورة الجزائرية، وفي المدرسة الابتدائية كنّا نردّد النشيد الوطني الجزائري يومياً

- لحظة، أبو مرداس. لديّ استفسار. سمعت أنّ جميلة بوحيرد وقفت مع بشار الأسد بعد ثورة 2011. هل هذا صحيح؟

- لم تقف معه بشكل عابر، بل حضرت إلى دمشق في سنة 2013، وقابلته، ونشرت تفاصيل اللقاء في الصحافة، مع الصور، وكان هدفها من الزيارة تقديم الدعم لبشار الأسد في حربه على الشعب الذي بكى بعض أبنائه لأجلها.

- نكران الجميل مؤلم.

- رويدك يا أبو سعيد، فأنا لا أحكم على أيّ شعب من خلال حادثة فردية، يعني لا يجوز أن يقودنا تصرّفُ هذه المرأة إلى أنّ الجزائريين ناكرو جميل، أو أنّ تعاطف السوريين معها، في تلك الأيام، لم يكن في مكانه.. ولكن علينا أن نميّز، دائماً، بين الشعوب ورجال السياسة، فهناك عدد كبير من السوريين الآن يمجدون صدام حسين، ربّما لأنهم لا يعرفون الكثير عن فظائعه بحق الشعب العراقي.. وكثيرون منهم إذا سمعوا أحداً يحكي عليه بشكل سلبي يسدّون آذانهم عامدين، فماذا لو حضر صدام حسين المأساة السورية، وخطر له، فرضاً، أن يقف مع بشار الأسد في مواجهتهم كثوار؟ 

- ولكن صدام حسين كان يعادي نظام الأسد..

- صدام حسين كان يعادي كلّ من حوله، تقريباً، لأنه يعمل لمصلحة بقائه وأولاده في الحكم.. لنفرض جدلاً أنّه ما زال حياً، واقتضت مصلحته أن يعادي الشعب السوري، فما الذي يمنعه؟! وهناك مثال أكثر وضوحاً، وهو أنّ الشعب السوري احتضن أهل جنوب لبنان الذين قصفتهم إسرائيل في سنة 2006، نتيجة سياسة حزب الله، فماذا فعل حزب الله، بعد قيام الثورة في سنة 2011؟ ألم يشترك مع بشار الأسد في قمع الشعب نفسه؟ قارن هذه بتلك واحكم بنفسك.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...