فرصة سعيدة شبه ضائعة اسمها سعيد صالح (2)

فرصة سعيدة شبه ضائعة اسمها سعيد صالح (2)

05 أكتوبر 2021
+ الخط -

عندما التقيت بالأستاذ سعيد صالح لأول مرة في عام 1997، عقب خروجه من السجن الذي قضى فيه حوالي عام على ذمة قضية تعاطي مخدرات، سألته عن صحة ما يقال إن القضية كانت "استقصاداً" له من السلطة بسبب مواقفه السياسية التي يعلنها على خشبة المسرح، أو تصفية حسابات بينه وبين ضباط مكافحة المخدرات الذين دخل في مناوشات معهم قبل ذلك، رفض تحديد سبب القبض عليه بشكل صريح، لكنه قال بعدها كلاماً ساخطا من نوعية: "زي ما يكون ما فيش في البلد حرامية ولا نصابين ولا تجار مخدرات ولا ناس بتنهب البلد.. ما عادش في غير سعيد صالح اللي البلد هيتعدل حالها لو اتحبس".

كنا نجلس في المرة الأولى للقائنا ولأكثر من مرة بعدها، أنا وسعيد صالح وصديقي القديم المصور حسن عبد الفتاح بعد منتصف الليل بجوار مطعم رضوان في ميدان الدقي، وقد كان ذلك كما فهمت مكان سعيد المفضل للسهر حتى مطلع الفجر، وكانت المرة الأولى التي أراه فيها يتحدث بلسان ثقيل بعض الشيء وبشكل مختلف لا يشبه طريقته التلقائية المدهشة التي تعودنا عليها حين نراه في المسرحيات والبرامج، وكان يبدو أن تجربة السجن هذه قد هدّته وآذته كثيرا صحيا ونفسيا، برغم حرصه الدائم على الحديث عنها بشكل إيجابي وكيف أنها أعطته وقتاً طويلاً للقراءة والتلحين واكتشاف أن أجمل الناس وأصدقهم وأطيبهم هم الموجودون داخل السجن وليس خارجه.

كنت منذ شعرت بتأثير السجن السلبي عليه أهرب من أي حديث يقلب عليه المواجع إلى الحديث عن مشواره السينمائي والمسرحي وأيام الصعلكة والكفاح، وحين لم تُرضني النبرة العدمية التي كان يتحدث بها سعيد صالح عن عمله في موجة أفلام المقاولات، فسألته ما إذا كان عمله يأتي كرد فعل متسرع لعدم حصوله على بطولات سينمائية مطلقة، مثلما حدث لعادل إمام وأحمد زكي ونور الشريف وغيرهم من أبناء جيله ـ يكفي أن تعرف أن يونس شلبي ومحمد صبحي أياً كان رأيك في مستوى ما قدموه من أفلام كانت أغلب أفلامهما أنجح تجارياً مما قدمه سعيد صالح من أفلام لعب بطولتها المطلقة ـ لكنه أجاب قائلاً بعناد إنه لم يكن أصلا يحب السينما، وأنه لو كان قد ركز فيها لأصبح نمرة واحد، لكنه كان ولا زال وسيظل يعتبر نفسه طيلة الوقت ممثلا مسرحيا لا يعرف له عشقا سوى المسرح، أما السينما فقد كان يمثل فيها لكسب رزقه فقط وللإنفاق على المسرح.

كان أول ما تذكره سعيد صالح بحفاوة وتقدير، مشهده الأشهر في فيلم (المشبوه) حين يمسك فيه بفلوس السرقة الأخيرة له مع أخيه ليشمها بحنين فريد من نوعه قبل أن يموت

اختلفت مع سعيد صالح في تقييمه لمشواره السينمائي، وذكّرته بعدد من الأفلام التي لعب فيها أدوارا متميزة يصفها البعض بأنها أدوار ثانوية طبقا للمفهوم المتخلف السائد لدينا والذي يحقر من قيمة الدور المساعد، أتحدث عن أفلام مثل (سلام يا صاحبي ـ المشبوه ـ بنات إبليس ـ أرزاق يا دنيا ـ يا عزيزي كلنا لصوص ـ مولد يا دنيا ـ الضائعة ـ نصف أرنب ـ درب البهلوان ـ الخادمة ـ توت توت ـ السادة المرتشون ـ عزبة الصفيح ـ الهلفوت) وغيرها من الأفلام التي كان حضوره فيها شديد الجمال والتلقائية والإمتاع، وأذكر أنه عندما سمع أسماء الأفلام التي أرددها له، اختفى فجأة سعيد صالح غير المكترث بالسينما، ليظهر سعيد الفخور بأدائه وبمشواره، متحدثا بحنين بالغ عن بعض تلك الأفلام.

كان أول ما تذكره سعيد صالح بحفاوة وتقدير، مشهده الأشهر في فيلم (المشبوه) حين يمسك فيه بفلوس السرقة الأخيرة له مع أخيه ليشمها بحنين فريد من نوعه قبل أن يموت، "كانت حتة دين شخصية.. أنا وعادل عملنا شغل حلو أوي في كل أفلامنا.. ومن ساعة ما بطلت أشتغل معاه ما عادش زي الأول"، قالها ثم أسرع ليضيف ضاحكاً: "لا يا عم أنا باهزر طبعا.. عادل بيعمل أفلام حلوة أوي.. عادل ذكي وشاطر والناس بتحبه"، وحين سألته عن الأفلام التي يحبها لعادل إمام منذ أن توقف عن عمل أدوار البطولة المساعدة معه في فيلم (سلام يا صاحبي)، قال: "أفلام كتير يعني"، وعندما طلبت منه ذكر أسماء محددة ضحك قائلاً: "أنا بقالي كتير ما باتفرجش على سينما.. وبعدين انت شكلك عايز توقّع بيني وبين عادل.. بس خد بالك عادل عارف إني باحبه جدا.. لعلمك أنا سألته بطّلت تجيبني ليه معاك.. قالي مش إنت اللي أبعت لك أي دور يا سعيد.. ولعلمك لو طلبني في أي فيلم هاروح أشتغل معاه".

كانت الصحف ووسائل الإعلام قد أشادت باللفتة التي قام بها عادل إمام مساندة لصديق عمره سعيد صالح، حين حرص على استقباله في موقع تصوير فيلم (بخيت وعديلة 2 ـ الجردل والكنكة) فور خروجه من سجن الحضرة بعد انتهاء مدة عقوبته، ليعلن سعيد للمخرجين والمنتجين عودته إلى التمثيل واستعداده الفوري للعمل، ولم يكن سعيد قد ناقش أي تفاصيل في الفيلم الذي كتبه لينين الرملي وأخرجه نادر جلال، لكنه أدرك أهمية أن يبدأ في التصوير على الفور ليؤكد عودته إلى العمل، ويجبر الجميع على الحديث معه عن مشاريعه الفنية بدلاً من الحديث المستهلك عن السجن وأيامه ومعاناته، وحين حاول بعض الصحفيين لومه بعد عرض الفيلم لأنه وافق على أداء الدور الصغير الذي لا يمكن مقارنته بأي فيلم من الأفلام التي سبق له تمثيلها مع عادل، كان يرد ببساطة "عادل صاحبي ولو طلبني في أي حاجة أعملها على طول"، وهو ما تأكد عندما وافق في عام 1999 على الظهور كضيف شرف في نهاية فيلم (الواد محروس بتاع الوزير) بمجرد أن جاءت فكرة المشهد الختامي لعادل إمام وعرضها عليه، وتكرر ذلك في فيلم (أمير الظلام) في مشهد جمع بينه وبين عادل ويونس شلبي وإن كان سعيد حريصاً هذه المرة على أن يكرر أنه هذه المرة لا يجامل عادل بل يجامل إبنه رامي في أول عمل إخراجي له، ثم جاء بعد ذلك المشهد الختامي لهما معاً في فيلم (زهايمر) الذي قدم فيه سعيد صالح أجمل مشاهد الفيلم بل وواحدا من أجمل مشاهده السينمائية خاصة أنه أداه في ظل حالة صحية سيئة، وأجزم كشخص عرف عادل إمام عن قرب أن عادل إمام في بكائه على المشهد، كان يبكي بحق وحقيق على سعيد صالح صديق عمره ورفيق مشواره.

لم يكن عادل إمام يغضب حين ينفعل سعيد صالح في بعض حواراته، فينتقده أو يتحدث عن أنه أفضل من عادل في المسرح، وأن عادل أفضل منه في السينما فقط لأنه أصلاً لا يحب السينما، أو أن يقول مثلاً في حوار نشرته صحيفة الوفد في 15 فبراير 1990: "عادل إمام إمكانياته عالية جداً، ولم يحصل على فرصته حتى الآن، لكنه بيضيع موهبته في أدوار كلام فارغ، يعني إيه عادل إمام يعمل أفلام أكشن، إحنا إزاي سايبين عادل إمام يعمل كده؟"، أو يقول في حوار آخر نشرته صحيفة الجمهورية في 5 أغسطس 1990: "عادل إمام نجم النجوم لكنه تأثر بالسوبرمان يعني مفروض ألا يستهلك نفسه ويبدد طاقته"، وحين سأله الصحفي لماذا لم يقل هذا الكلام من زمان، أجاب" قلت له من زمان انت كنت في مدرسة المشاغبين حاجة عظيمة تماما، كان جنبك غيلان، والنجم الفرد مشكلته دايما إنه ما يلقاش حاجة جديدة يعمله"، وحين سأله الصحفي عن رد عادل إمام قال له سعيد: "ضحك طبعا ما هو عارف ده كويس أوي وبيحاول ينسى أو يتناسى". كان عادل يتجاهل هذه التصريحات تماماً، وأذكر أنني مرة حاولت مشاغبة عادل إمام بسؤاله عن كلام مثل هذا قاله سعيد في حقه في إحدى الحوارات، فقال لي ضاحكا "سعيد صالح يقول اللي هو عايزه".

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.