رائحة الكتب

رائحة الكتب

25 يوليو 2021
+ الخط -

علاقتي بالكتب والمكتبات بدأت مبكرا من مكتبة أبي الضخمة التي خصص لها أكبر غرف البيت وأنفق عليها الجزء الأكبر من ثروته، واختص كتبه بالمعاملة الحسنة وحنانه وعنايته ووقته الذي فاق ما كان يمنحه لأبنائه.

كان يرعاها ويعاملها بلطف شديد ولا يسمح لنا بالجلوس معها إلا بشروط خاصة، ومن يخالفها أو يتعامل معها باستخفاف أو بقلة احترام يتعرض للعقاب الشديد..

ورثت كل ذلك عنه مع اختلاف بسيط.. أنا ليس عندي أبناء ولم أنشئ مكتبة، لأنني عندي أفكار مختلفة عن أبي، وأرى أن ما أقرأه وأحبه، أحب أن يقرأه غيري، عوضا عن تخزينها على أرفف خشبية، فكنت وما زلت أهديها وأتبرع بها وأعيرها دون انتظار لعودتها، لكني لم أقبل أن أرى أحدا يثني ورقة من كتاب، أو أن تتسخ صفحة بيضاء أو أن يخط فيها بقلم.

قبل أن أبلغ العاشرة أمضيت في مكتبة أبي أوقاتا أشبه بالسحر مع حكايات كليلة ودمنة، ومجلد المستطرف في كل فن مستظرف، ورواية ثمانون عاماً بحثا عن مخرج التي لم يكملها صاحبها، فزادت خيالي إثارة، وكتب السيرة، وأخرى اكتشفتها كانت مخبأة لأنها للكبار فقط.

كان أبي لا ينام بعد الفجر ويغلق عليه باب المكتبة من الجمعة للجمعة، يكتب ويحضر ما سوف يلقيه من فوق المنبر، وكان يعلمني كيف أبحث في الكتب وكيف ألخص ما أقرأه.

اختلاف بسيط آخر عن أبي له علاقة بنوعية الكتب والكتاب المفضلين، فعندما كبرت قليلا وسمعت بنجيب محفوظ وقلت له إني أريد أن أقرأ له، أجابني بأنه كاتب جنسي، لكنني لم أقتنع بكلامه، ولظروف عمله أصبحت أنا في بلد ومكتبته في بلد آخر، وانقطعت علاقتنا..

لم يتسن لي أن أعرف رأي أبي في هذا الموضوع، وهل كان سيرفضه أم يقبله، ولم أرث مكتبته، ولا أعرف مصيرها على وجه التحديد

لكن نشأت علاقة أخرى لا تخلو من السحر أيضا بيني وبين مكتبة قديمة تعرفت عليها  بالمصادفة في طريق عودتي للبيت، كان صاحبها يعير الكتاب مقابل جنيه واحد لمدة أسبوع، وانفتح أمامي عالم جديد قديم، عالم نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس.

كان أهم ما يميز هذه المكتبة غير كبر حجمها وتنوع عناوينها هو الطبعات القديمة بأحجامها الكبيرة وأوراقها الصفراء، لها عبق، وأغلفتها أقرب للأفيش السينمائي، كنت وما زلت لا أمشي ولا أذهب إلى أي مكان من دون كتاب أحمله في يدي أو حقيبتي وكان أبي يقول لي إنه سيورثني مكتبته.

لم تنقطع علاقتي بالكتب بمرور السنوات لكن حدث تغيير آخر بسيط في العام الماضي، كنت قد جربت منذ أكثر عشر سنوات أن أقرأ الكتاب الإلكتروني وفي داخلي رفض كبير له، كان من الصعب علي أن أتقبل ذلك التحول في علاقتي بالكتب، أن أقرأ في شاشة صماء ليس لها رائحة ولا ملمس، قاومت طويلا وأهدرت الكثير من الوقت، وماطلت تهربا من هذه اللحظة، وظلت العناوين تتراكم ولا أستطيع ملاحقتها نظرا لعدم توفرها ورقيا أو جغرافياً أو لغلاء أسعارها، حتى قررت مواجهة ذلك في العام الماضي، وقرأت ثلاثين كتابا بصيغة pdf في ستة أشهر، واستسلمت تماما وفتحت عقلي وقلبي للسحر الجديد.

أشعرني ذلك بأني كنت أسير أوهامي، وأن رفضي ذلك كان نابعا من جهلي، وأن مقاومتي تلك لم تكن إلا معادة لكل ما هو جديد ومختلف، ورفض للتغيير الشخصي اللذي سيحدث لي..

فقد كان الكتاب الذي أحمله في الشارع وفي المواصلات شيء خاص يميزني، وأحسست بندم كبير على ما فاتني، وبخوف من كل ما أعتقد عن الحياة وعن نفسي أن تكون هي الأخرى مجرد أوهام، لأنني اكتشفت أن القراءة الإلكترونية أيضاً ممتعة ومسلية وسلسة وأسهل في المراجعة والبحث، وأكثر توفيراً للوقت وأيضاً لن يتعرض الكتاب الإلكتروني للتلف أو للاتساخ، ولن يثني أحد لا يعرف قيمته، أوراقه.

لم يتسن لي أن أعرف رأي أبي في هذا الموضوع، وهل كان سيرفضه أم يقبله، ولم أرث مكتبته، ولا أعرف مصيرها على وجه التحديد، من الممكن أنها ذهبت لأناس لا يعرفون ماذا كانت تمثل لي، وربما بيعت على الأرصفة، لكن أعرف أن أبي كان قد كتب مخطوطات لكتب لم تنشر، وربما أفعل أنا.

بالطبع لم أتوقف عن حمل الكتب الورقية وقراءتها وإهدائها لمن أحب، لكني توقفت عن زيارة معارض الكتاب، وانقطعت علاقتي بالمكتبات ما عدا مكتبة الأسرة التابعة للهيئة المصرية العامة للكتاب التي رافقتني من طفولتي حتى الآن، وأدين بالكثير لعناوينها المتميزة وأسعارها الزهيدة، ولا أتوقف عن زيارتها بين الحين والآخر.

دلالات