المصري والساعة السويسرية: حروف وحتوف

المصري والساعة السويسرية: حروف وحتوف

06 اغسطس 2023
+ الخط -

اللذيذ العزيز في أي مكان تحت الشمس، تحية طيبة وبعد، من شخص يعيش معك على الكوكب الأزرق، ما رأيك أن نأخذ مسافة معقولة بعيداً عن التجريح؟ أن نبتعد بقدر صحي عن العنصرية والتراشق الرخيص؟ لن أذيع سراً إن قلت لك إن بعض الخلق -من آن لآخر- ينسى نفسه، يريد أن يتظارف ويتفكّه، يحاول أن يستخفّ دمه، أن يحفّل على خلق الله بمناسبة ومن دون، يحدث ذلك في أصقاع الأرض، ربما ينقلب السحر على الساحر، نتيجة عكسية تكون سريعة أحياناً، أنتوني سكاراموتشي مثالاً، النتيجة تكون قاصمة الظهر والرقبة أحياناً، جون شناتر مثالاً.

البلايا على الحوايا، أدمت منصات التواصل أعقابنا، كثيراً ما ترى (مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ)، يحطبون ويخبطون، باللهجة الخليجية "ما عنده سالفة"، أي مسألة في كون الله الفسيح في عقله -إن كان له عقل- مجرد "هَرْجَةْ". هذا شابٌ عربي، ألقى به طلب الرزق في أقصى شرق المعمورة، خمس سنوات في كوريا الجنوبية، يعيش في حي يونسو بمنطقة إنتشون غربي العاصمة سول، يتدرّب يومياً بإحدى صالات اللياقة البدنية، في 26 يوليو/ تموز الماضي يعثر على ساعة سويسرية قيمتها (51 ألف دولار أميركي).

ألحّ الشاب في البحث عن صاحب الساعة، ظهر السيّد مون صاحب الساعة، وجد ضالته، طابت نفسه بعودة هدية شقيقته إليه، بعيداً عن قيمتها المالية، لم يسأل أو ينشغل إن كان الشاب الأمين مصرياً أو غير مصري. أمانةٌ تُذكر فتُشكر، قبل أن تعرف أن الشّابّ يدعى محمود النجار، قبل أن تعرف أنه مصري، قبل أن تعرف أنه يبحث عن اللجوء في كوريا الجنوبية، هذه رتوش لا تؤثر في صلب الحدث. لعلّ قيمة الساعة بالجنيه المصري تصيب أناساً بالدهشة، قيمتها مليون ونصف المليون جنيه، لكن ليست كل النفوس يسيل لعابها للمال، (وإذا كانت النّفوس كباراً/ تعبت في مرادها الأجسام).

على منصات التواصل العربية الأمر عجب، يقول أحدهم "لو علم أنها غالية لما فكّر في إعادتها"، أنقل لك كلماته بعد تشذيب وتهذيب. يقول آخر "ردّها لأنه ما يقدر يبيعها إلا بفاتورتها"، لعلّه شقّ عن قلب الرّجل وعلم نواياه. يغرّد ثالث "ما فيه عرق مصري"، هذا سبّ المصريين عن بكرة أبيهم، وطائفة من الأقوال التي يندى لها الجبين. بالطبع لم تكن التعليقات كلها على هذا النحو المؤسف، لكن هذه الكلمات الموتورة لها دلالة وتأثير، سأسوق لك مثالاً يقرّب البعيد.

في حديث فؤاد دوارة مع طه حسين، يسأل الناقد: كل الظروف كانت مهيّأة أمامك للمضي في دراستك الدينية التقليدية؛ فكيف تحولت إلى دراسة الأدب؟ في مطاوي رده يقول إن أسبابه اتصلت صدفةً بالشيخ سيد علي المرصفي، مضيفاً "وما هي إلا أن أحببت الشيخ وأحبني أشدّ الحب، وأصبحت من أقرب تلاميذه إليه، وكان من أبرز صفاته أنه يكره الأزهريين وتقاليدهم، ويزدري دراستهم ومذاهبهم في هذه الدراسة، وكان يقضي أكثر وقته عابثاً بالشيوخ ساخراً منهم.. ومنذ ذلك الوقت فتنت بالأدب وأستاذه، وجعلت أسخر من شيوخنا وطرقهم في الدرس".

ثمة عنصرية في مجتمعنا العربي، عنصرية لا تعرف لها سبباً وجيهاً، ليس معنى ذلك أنني أسوّغ العنصرية بأي حال، لكنّ مناصريها يرتكزون إلى جنس ما، الجنس الآري في عرف النازيين، أو لون البشرة عند آخرين

بالقياس، تجد ناقمين على بلد ما يكتبون ويغرّدون، يتداعى إليهم أمثالهم تداعي الفراش إلى النار، تكثر العصبية وتزيد (فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)، استقطاب هنا واستقطاب هناك، تتفسّخ عرى الأخوة وآداب التعايش والتراحم، ولعلّك تعاتب بعضهم بأدب فيردّ بطمأنينة لا مزيد عليها (إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ)، أو يقهقه (ثَانِيَ عِطْفِهِ) قائلاً "بنضحك"، ربما يجاب "يا أخي ضحكت عليك نفسك".

ثمة عنصرية في مجتمعنا العربي، عنصرية لا تعرف لها سبباً وجيهاً، ليس معنى ذلك أنني أسوّغ العنصرية بأي حال، لكنّ مناصريها يرتكزون إلى جنس ما، الجنس الآري في عرف النازيين، أو لون البشرة عند آخرين، أو التفوق الفكري أو العلمي أو التكنولوجي، أكرر -للأهمية- إنني لا أسوّغ العنصرية بأي حال، فإن حاولت أن تبحث في المتنمرين على موقف ساعة كوريا الجنوبية وجدتهم من جماعتنا، من بني جلدتنا، بالبلدي "كلنا في الهوا سوا"، بتعبير أمير الشعراء "كلنا في الهمّ شرق"، بتعبير الجدات "لا تعايرني ولا أعايرك، الهمّ طايلني وطايلك"، فمن أين لهؤلاء بهذه العنجهية والنعرة الجاهلية؟

للإنصاف هم قلّة، قلّة ولكن إنّ البعوضة تدمي مقلة الأسد، قلّة ولربما جرح البعوض الفيل، لا يجدر بعاقل أن ينساق وراء هذه الترهات، أن يحجّر واسعاً أو أن يعمّم خاصاً، فإن قلت لك إن بعضاً ممن (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ) سوّلت لهم أنفسهم إخفاء 160 جهاز تكييف، لم يسرقوها من مجمع سكني استثماري -ولا نقرّ بذلك- إنما من مستشفى الرشاد التدريبي للأمراض النفسية والعقلية (الشمّاعية)، طبّقوا المثل الميكافيللي "إن شفتْ أعمى دِبّه وخُدْ عَشَاهْ مِن عِبّه مَا انتاش أرْحَمْ مِن رَبّه"، لو همست لك حدث ذلك في مدينة السلام (بغداد)، هل يذهبن عاقل إلى أن المنظومة الطبية في العراق منزوعة الرحمة؟ هل يقولن لبيب إن العراق بلد فاسد؟ لا يقول بذلك من له مسكة من عقل.

إذا علمت أن آدمياً عرض ابنته (11 عاماً) للبيع، عرض الجواري، إذا علمت أن أحدهم اشتراها بمبلغ 350 دولاراً أميركياً، لعلّك الآن تذكر فاروق جويدة (في ساحة الشيطان تقرأ سورة الدولار/ يسعى الناس أفواجاً إلى مسرى الغنائم والذهب/ والناس تسأل عن بقايا أمة تُدعى العرب). هل آلمتك الكلمة؟ اشتراها! إذا علمت أن ذلك وقع باليمن، الذي كان سعيداً، إذا علمت أن ذلك وقع في نهاية يوليو/ تموز 2023، ليس قبل آلاف السنين، هل يزعم عاقل أن اليمن كلّه على هذه الشاكلة؟

شركاؤنا في الكوكب، قال الأول "خِف تعوم"، مقولته ما زالت صالحة للاستعمال، فإن سألت عن بواعث تشوّه صورة كانت يوماً مضرب المثل ومدار الحل والعقد، لقال لك كثيرون -إن بلسان الحال وإن بلسان المقال- وعلى وجوههم غلالة من أسى (كلّ الحكاية أنّها ضاقت بنا/ واستسلمت للصّ والقواد). لولا الإطالة لحدثتك عن قصة إيرانية مشابهة لحال محمود النجار، ولحدثتك عن وزير الاقتصاد الفنلندي ويلي ريدمان وصديقته أماندا بليك، وللحديث صلة.