الحرية للآخرين!

الحرية للآخرين!

25 يوليو 2023
+ الخط -

في عنوان الخبر الذي يفيد بالحكم في قضية فيها مئتا شخص تقريباً، لن يذكر المحرّر إلا اسمين أو ثلاثة تجرّ فضول الجمهور، ما يدعوهم للتفاعل، وفي متن الخبر، لن تُذكر أسماء إضافية، ليس لأنّ مساحته في الموقع لا تكفي لكلّ ذلك، وإنّما لأنّ كتابة الخبر تأخذ عنصر "الأهمية" بالاعتبار، فيترتب من المهم للأهم، أو من الأهم إلى المهم، سيقول: "الحكم على فلان الفلاني والدكتور الفلاني وآخرين بالسجن المؤبد في قضية كذا كذا".

سيقضي أعواماً ربّما، دون أن يسمع عنه أحد، ولا يطالب بحريته أحد، إلى أن يجيء موعدٌ لتحريك عفو رئاسي جديد، كنوعٍ من أنواع مساومة السلطة، ولعبها بالأوراق، لتفادي ضغط المجتمع الدولي، أو للحصول على مزيد من الامتيازات رغم جرائمها، فإنّها حينها ستفرج عن فلان الفلاني، الذي سيتصدّر اسمه عناوين الصحف، وتغريدات المنظمات الحقوقية، وثناءات السياسيين العواجيز على "سعة صدر" النظام، ولا يبقى إلا الآخرون!

لا يكون ذلك ذنب المشهورين حينها، فالحرية من حق أيّ إنسانٍ بريء، بغضّ النظر عن دائرة معارفه، أو عدد متابعيه، أو مدى ظهور اسمه في محركات غوغل، وإنّما هو جرم المنظمات الحقوقية قبل جرم السلطة، لأنها تتمحور حول عشرة أسماء فقط، بين ستين ألف اسم، وقد يكونون حتى من خلفيات متقاربة، بعيداً عن عشرات الآلاف الذين لا تذكر المنظمات أسماءهم ولو بالصدفة في بيان آخر، ولا تطالب بحريتهم أحياناً، إلا من باب رفع الحرج.

يُعتقل فلان، فنقول إنّ النظام جُنّ جنونه، بغضّ النظر عن الدماء التي سفكها، والأرواح التي أرهقها، والمائة ألف الذين اعتقلهم بالتناوب، كلّ هذا كان نظاماً قمعيّاً فقط، لكنه الآن، باعتقال فلان، تحوّل إلى نظام مجنون! تقوم الدنيا ولا تقعد، وتطالب المنظمات، وتضغط الحكومات، ويصرّح وزراء الخارجية، يفرج عنه النظام، في لُعبة يفضّلها، لتملّك مساحة جديدة من الثقة وعامل الوقت، فيشكره المسؤولون، وتستبشر المنظمات أنها "بارقة أمل"، ويتحدث الساسة عن "بشرى خير".

الحرية من حق أيّ إنسانٍ بريء، بغضّ النظر عن دائرة معارفه، أو عدد متابعيه، أو مدى ظهور اسمه في محركات جوجل

أما الآخرون، فيجلسون في زنازينهم، يشاهدون كلّ ذلك في يأسٍ ثقيلٍ، وإحباط جاثم على ظهورهم، وظلام يعمي عيونهم من زمنٍ طويل، لأنهم صُنّفوا، من تيارات معينة تتفق السلطة والمجتمع الدوليّ على كرهها، أو تجاهلها، أو صُنّفوا تحت عنوان عريض اسمه "العنف"، فيكون استثناؤهم كلّ مرّة سهلاً.

ممنوعون من الزيارة، لا بأس، المهم الاحتفاء بفتح الزيارة لفلان، ويتعرّضون للتعذيب المفضي إلى الموت، لا بأس ما دام فلان يؤكد عدم تعرّضه للتعذيب، وأنه على قيد الحياة ويُعامل معاملة جيدة، ولا يشمّون رائحة الشارع ولا يحصلون مرّةً على إخلاء سبيل، لا بأس، ما دام المعروفون يخرجون أحياناً.

نجح النظام في تلك المعادلة التي تروقه للغاية، محتفياً بالفخ الذي نصبه ووقع فيه الحمقى، وانطلت على الجميع الخدعة، من دون قصد أو بمزاجهم، أن تكون الحرية أولوية، على حساب الاسم الذي سيُذكر بعدها.

يقبع الآخرون في مقابرهم منذ عشر سنوات، يقتلهم النظام بالموت البطيء، وتدفنهم المنظمات الحقوقية بتحويل جثامينهم إلى أرقام، ويؤبّنهم المتضامنون كلّ حين بالصلاة عليهم وقراءة الفاتحة، ويبني فوقهم المحبّون أضرحة، ويعدّهم السجانة في كشف الموتى، بينما لم يتوّقفوا عن الصراخ لحظة منذ مائة وعشرين شهراً، وهم يطرقون الجدران والأبواب المصفّحة بقوة، حتى تنكسر أياديهم فيطرقونها برؤوسهم، ويقولون: "نحن هنا"!