إنهم قادمون إلى القمر

إنهم قادمون إلى القمر

30 يناير 2024
+ الخط -

تحت ظلال مُنتزه ابن سينا أحدّق في القمر. تشرب روحي منه. شيء ما أبعد من المرئيّ فيه، يجذبني إليه. سلام على القمر المنير. إنّه هناك، في الأعلى "كقطعة جليد مدوّرة مملوءة بنور ساكن"، بتعبير غوستاف فلوبير. لا يمسُّهُ شيء، ولا يدنّسهُ دمٌ. لم تُقسّمه السُّيوف إلى إمبراطوريات، وليس في ملكيّة أحد. مُتعالٍ ومُبهر. يظلُّ في حدود النظرة لا أقلّ ولا أكثر. حتى حين قرّبه إليه العالم الجليل جاليليو بمنظاره، لم يذهب في تفكيره أبعد من هذه الكلمات: "إنه منظر جميل وساحر للتأمل". لكن، من كان يتخيّل أنّ هذا الصفاء الباعث على أحلام اليقظة والتأمل، سرعان ما سيتكدّر؛ بل يوشك أن يتغيّر، وأن يصبح شيئًا من الماضي. 

ففي الأيام القليلة المقبلة من شهر فبراير/شباط، وسيراً على احتدام المنافسة في السنوات الأخيرة بين الدول للهبوط على سطح القمر، والتي كان آخرها الهبوط الناجح لمركبة تابعة للهند في أغسطس/آب الماضي، من المرتقب أن ينفجر صاروخ خارج الغلاف الجوي ليفسح للبِّ الصناعة الفضائية الأميركية، المركبة Nova C، والمتبناة من شركة Intuitive Machines الخاصة، أن تسبح في اتجاه القطب الجنوبي من الكوكب الهادئ، محمّلة بحزمة من الأجهزة والمعدّات العلمية. إضافة إلى عدّة كاميرات ومجموعة من الروايات المخزّنة على أقراص ميكروفيتش وسلسلة من المنحوتات الصغيرة بتوقيع الفنان جيف كونز، والتي سيتم تغليفها في علبة لتستقرّ هناك إلى الأبد.

قد تغبطنا، وتحرّك فينا المشاعر الجميلة هذه الهدايا الفنيّة التي سيستقبلها القمر كما يليق به. ربّما هي ببساطة تعبير عن الحب، وعرفان بالجميل كما يمكننا أن نعتقد؛ نوع من الاعتراف بشاعرية الرفيق الطيفي للأرض. هذا الرفيق الذي سكب نوره في كأسِ أوقاتنا الرومانسية، كما على ضفاف الأنهر والبحيرات، والشواطئ الجميلة. أو ربّما شكل من التقدير الواجب إزاء هذا الملاك الحارس؛ إذ لولاه ما استقر تذبذب كوكبنا الأزرق ومناخه. لكن، بقليل من التفكير سرعان ما يبهت هذا الاعتقادُ الساذج في كوننا لطفاء وعقلاء ونبلاء ومستكشفين بريئين إلى هذا الحدّ. فالتاريخ دائماً ما يعيد نفسه بالعبرة ذاتها، وإن اختلفت الأزمنة والأمكنة والروايات. وهذا ما يجعلنا نرتاب في نوايانا البشرية التي تتكشّفُ في كلّ مرّة؛ ليبرز وراء كلّ عرض سلام، حصان طروادة. 

إنّ فضول العلماء الذي يدفعهم إلى سبر أغوار الكون واستكشافه مقرون للأسف الشديد بغرور الأثرياء وطموحات السياسيّين المثيرة للقلق

لا يعوزنا الشك، ولا التجربة، في أنّها ليست سوى التحية الأولى، الماكرة، والخطوة الحذرة المستكشفة، التي تُذكِّرُ بالرّحالة كولومبوس، حيث جاء عقب الانحناءة الودودة أمام الهندي الأحمر، بطشٌ كبيرٌ وجشعٌ وحشيٌّ لا حدّ له، استحوذَ كالليل المظلم على قارّة بأكملها وأباد سكانها الأصليين. 

كلّ التوقعات تشير للأسف إلى أنّ هذا الجشع نفسهُ هو ما سيتكرّرُ في أفق آخر بعد عقود قليلة فقط، وسيكون مسرحه القمر. قديماً تساءل الكاتب الأيرلندي برنارد شو إن كان هناك رجال على ذلك الكوكب، "فإن كانوا فلا بد أنهم يستخدمون الأرض كملجأ للمجانين". نعرف اليوم أنّ القمر كان منذ الأزل سيّد نفسه. لكن، لن يطول هذا كثيراً...، فالمجانين صاعدون إليه، وقادمون، ليملأوا بالجنون البشري فراغه ويلحقوه، طوعًا أو كرهًا، بآلام الأرض الحزينة ويُفقدوه اتزانه ورصانته، محوّلين إياه إلى منجم، إلى مطار ومستعمرة ومستودع لتفريغ الحمولات، إلى مكبٍّ للنفايات، ومعقل للمشاريع التي ستستخرج كنوزه الظاهرة والخفية، بدءًا من المياه المثلجة إلى المعادن الثمينة، بما في ذلك عنصر الهيليوم 3 المهم جدًا في المستقبل للطاقة النووية الاندماجية؛ ثم العودة بهذه الغنيمة إلى الأرض.

لن تعود علاقتنا بالقمر كما في الماضي. وستنتابنا الحسرة ونحن نطالع قصائد الشعراء وألحان السيمفونيات بحثًا عن عذريته الحالمة

لن تعود علاقتنا بالقمر كما في الماضي. وستنتابنا الحسرة ونحن نطالع قصائد الشعراء وألحان السيمفونيات بحثًا عن عذريته الحالمة. برعونة ستُفرّغ فيه الحمولات الأرضية التي لا تناسب صرحه الحالم؛ وربّما ذهبت أبعد في تدنيسه. إذ لن تقتصر هذه الحمولات كما بات واضحًا على الأجهزة التقنية والروبوتات. فالمرء يشعر بشيء كانقباض المعدة وهو يقرأ خبرًا عن المركبة Peregrine الإسرائيلية ذات الهبوط الفاشل، والتي كانت تحمل قبل أن تتحوّل هي نفسها إلى خردة حفنات من بقايا جثت بشرية محترقة. والخوف، كلّ الخوف أيضًا، من جلب مواد بيولوجية خطرة، وهذا ما لا يمكن تجنّبه. كما من شأن ذلك أيضًا أن يؤدي إلى جدل مستمر وتبادل الاتهامات بين الدول. فالمركبات الفضائية، وإن كانت ترعاها الحكومات، فإنها في واقع الأمر تابعة لشركات من القطاع الخاص، أي أنها مموّلة تجاريًا بحيث يمكنها إضافة أيَّة حمولات أخرى بأريحية، وبحرية غير مسؤولة. 

إنّ فضول العلماء الذي يدفعهم إلى سبر أغوار الكون واستكشافه مقرون للأسف الشديد بغرور الأثرياء وطموحات السياسيّين المثيرة للقلق. فالمركبات الفضائية لا تنطلق لسوء الحظ من المدن الفاضلة. فهنا، على هذه الأرض، لا يحكم الحكماء والفلاسفة؛ بل سياسيُّون يُشَيْطِنُونَ بعضهم البعض، ويَشنُّون حروبًا في كلّ وقت. وثمّة أثرياء كثر في خلفية هذا المشهد المريع، يحرّكون العالم مثل الدمى بحثًا عن المزيد من الثراء الذي قد يُمَكِّنُ الواحد منهم (دون أدنى شطح للمخيّلة، ولا مجاز) من وضع القمر كقطعة الدّرهم المعدنيّة في جيبه. 

وأنا أحملق في القمر، أحاول أن أتذكّر الحركة الأولى من "سوناتا ضوء القمر" لبيتهوفن. أحاول أن أعصر تلك المشاعر المحتدمة التي تولدها مفاتيح البيانو بغموض حزين في قرارة نفسي، والتي عبّر فيها المؤلّفُ الموسيقيُّ العظيم عن آلام فراقه تلميذته بعد تدخّل أرعن من عائلتها في صفعة قاسية لذلك الحُبّ. هل كان اسمها جيوليتا؟ 

نعم، هذا هو اسمها. جيوليتا.. ما أشبه القمر بجيوليتا حين يلقي هؤلاء بظلالهم الثقيلة عليه، مجانين السلطة والثروة والذهب.