... في البحث عن "ساعة السعادة"

... في البحث عن "ساعة السعادة"

16 مايو 2014

kbeis

+ الخط -
يمكن تقييم حياة فردٍ معيّن من خلال جوانب يمكن البحث عنها. نبحث، مثلاً، عن السعادة وكيف نكون سعداء؟  أو عن المعنى، وكيف تكون الحياة ذات معنى، أو عن الصحة ومدى تمتّع الفرد بالصحة، أو عن حالة الاستقرار ودرجة استقرار حياة الإنسان، أو عن حالته الاقتصادية مثلاً.  وثمّة أبعاد أخرى عديدة يمكن تقدير الحياة من خلالها، وترتبط جميعاً مع بعضها، على الرغم من تميّزها. فمثلاً، اعتقد أرسطو أن سوء الوضع الاقتصادي للفرد يؤثر سلباً على سعادته. ويعتقد مختصون أن بعض الجوانب تكون أكثر أهمية من جوانب أخرى، وقد تكون آثار الاختلال في بعضها أسوأ منها في عناصر أخرى.
ويمكن أن نلاحظ، مثلاً، الاهتمام بالسعادة أكثر من غيرها في الأدبيات الفلسفية المعاصرة، على الرغم من أنها، أي السعادة، تعتبر من الموضوعات التي يصعب على الدراسين تحديد معالمها، من حيث أين تبدأ، وأين تنتهي، بداية من تعريفها وانتهاءً بأنواعها وأشكالها وأساليب تحقّقها، أو الحصول عليها. وعلى الرغم من أنها مطلب إنساني، توصف بأنها غاية يسعى إليها الناس جميعاً، فمن الصعب تعميمها. وقد يوجد مَن لا يرغبها، أو لا يهتم بالوصول إليها، معتبراً إياها ضرباً من الترف، أو الضحالة الفكرية، وأنها مضيعة للوقت. لذلك، تبدأ صعوبة الموضوع من بداية تناوله؟

لكن، ثمّة إجماع على أن مسألة السعادة دائماً تحتل في علم الاخلاق مكاناً كبيراً قدّم فيه مفكرون كثيرون إسهامات لبحث هذه المسألة التي، ربما، هي منطلق ومبتغى المساعي الإنسانية. ويلاحظ أنه في أثناء رحلة البحث عن السعادة، يشعر بعضنا بالوهن والاكتئاب، ويحاول آخرون إقناع نفسه بعباراتٍ من قبيل: أتمتّع بالصحة، ولديَّ منزل وعائلة سعيدة وأصدقاء محبون وعمل، لا بد، إذن، أن أشعر بالسعادة. لكنَّ آخرين قرروا أن "السعادة صناعة"، ومشوار البحث عنها هو السعادة بعينها.

وتناقلت وسائل التواصل الاجتماعي والإعلامي أن عجوزاً فرنسية، في العقد السادس من عمرها، بحثت طويلاً عن معنى "ساعة السعادة"، ولم تجد، طوال حياتها، جواباً شافياً، فقررت، أخيراً، أن تلجأ إلى الإنترنت، لتسأل. وكانت قد حاولت أن تبحث في القواميس عن جواب مقنع، فلم تفلح، وذهبت إلى مراكز بحوث اجتماعية ونفسية، ولم تقع على ما تريده، وقالت إن الشروح التي كانت تسمعها "مملّة جداً ومعقّدة، لا علاقة لها بالسعادة".
لا شك أن سؤالين: كيف نكون سعداء؟ وأين نجد السعادة الحقيقية؟ يطرحهما الآلاف في العالم على أنفسهم كل يوم، وهم مقتنعون، إلى حد ما، بأن المال لا يشتري السعادة، وأن التجارب "المادية" لن تحقق الفرح الذي قد يجلبه الاختلاط مع الناس.

هذا صحيح؛ فالتاريخ سجل حالات كثيرة لأشخاصٍ وجدوا السعادة بامتلاك المال والثراء والجاه والسلطة، إلا أن نهاياتهم أثبتت أنهم لم يكونوا بالقدر الذي رسموه لأنفسهم من سعادة، فالأخيرة لم تكن سوى إطار كانوا يزينون به عالمهم الذي يعيشون فيه، ليقنعوا الآخرين بأنهم سعداء، إلا أن الزبد ما لبث أن ذهب سريعاً؛ لتملأ أخبارهم كتب التاريخ وصفحات الجرائد ووسائل الإعلام، مثل: نيرون روما، وهتلر، ومارك أنطونيو، وإرنست همنغواي، ومارلين مونرو، وداليدا، وغيرهم كثيرون، يمكن قراءة أسمائهم في موسوعات أشهر المنتحرين. لماذا يا ترى؟

تحدّث أطباء وعلماء نفس غربيون عن تجاربهم، وعن أكثر الحالات التي أثّرت في حياتهم، وثمة قاسم مشترك عن الاختلاف الرهيب بين رؤيتنا إنساناً معيناً ورؤيته لنفسه، وعن هذه الأقنعة التي يغطي الناس بها آلامهم، ولا يحس بها أحد، فهذا ملياردير اقتصادي ناجح، يمتلك شركات في كل العالم، ويؤثر في اقتصاد دول بأكملها، لكنه، في الحقيقة، حزين يتألم داخليّاً، لأنه يعتقد أنه أضاع حياته في جمع المال، وأخذته الحياة بعيداً عن حلمه في أن يكون مؤرخاً ومكتشفاً للآثار والحضارات. وعلى الرغم من نجاحه الساحق في مجاله، فإن هذا النجاح ما هو إلا قناع يغطي به آلام الفشل التي احتلت قلب روحه، وجعلته إنساناً حزيناً، على الرغم من أن صورته على غلاف مجلة "فوربس" تحمل ابتسامة يظنّ مَن يراها أن هذا الرجل أسعد إنسان في العالم!

ولا ننسى أن هناك ظاهرة انتحار، أو حوادث موت أناس يظن كلّ منّا أنهم في غاية السعادة والنجاح في حياتهم، إلا أن تحقيقات الشرطة والطب الشرعي تثبت أننا لم نكن نعرفهم، فهم كانوا محطمين داخليّاً، وكل هذا النجاح والشهرة والمال والضحكات على شاشات التلفاز لم تكن إلا أقنعةً تغطي أمواجاً كالجبال من مشاعر الألم والوحدة، تغرق فيها أرواحهم، ولا يحسّ بهم أحد... مايكل جاكسون، والذي ظنّ الناس أنه امتلك كل شيء في الدنيا، لم ينم ليلة واحدة نوماً عميقاً طبيعياً، مثل أي إنسان فقير في أفقر مكان في العالم، وكان لا يمكنه النوم إلا بالتخدير الكلي عن طريق طبيب، وظل ذلك سراً لا يعرفه أحد عنه، وهو الذي ارتدى قناع النجاح الساحق، حتى مات بسبب جرعة تخدير زائدة، وكان كل أمله بضع ساعات من النوم؛ لكي ينسى أحزانه!

يقول العلماء إن المفهوم الشائع عن تحقيق السعادة من خلال السلطة والثروة دافعه غرائزي بالأساس. فشهوات الإنسان ورغباته وضعفه أمام مظاهر الحياة المختلفة وحاجته تستدعي ذلك بشكل أو بآخر، وهو ما قد يؤدي إلى الخلط بين مفهوم السعادة لدى الإنسان وما يحقق إشباع رغباته، وكأنهما شيء واحد.

ولكن، لو كان المال والجاه والجمال كافياً لتحقيق السعادة، لما وجدنا أولئك المترفين بإشباع الشهوات، والذين يمتلكون المال والجاه والجمال، مصابين بحالات اكتئاب تجعل منهم زبائن دائمين في عيادات أطباء النفس وأوكار المشعوذين!

أختم بمشهد من فيلم "شادو لاند" للمخرج ريتشارد أتبرو، يحمل معنى لحقيقة السعادة، على الرغم من أنه مشهد يثير الحزن والشجن، وهو يضم منظراً للسيد لويس وزوجته جوى المريضة، حيث يسيران معاً في منطقة "هيرفورد شاير". كانت حدة مرض السرطان الذي تعاني منه الزوجة قد خفّت قليلاً، إلا أنها على ثقة من أن هذه الهدنة من المرض لن تدوم طويلاً. ومع ذلك، شعر كلاهما بالبهجة والسكينة. قال لويس إنه يفضّل هذا النمط من السعادة، حيث تكون اللحظة الحاضرة مكتملةً بذاتها، ولا تلوثها أية أفكار ماضية، أو مستقلة بذاتها عمّا سبقها وما قد يلحق بها. نظرت إليه زوجته وعاتبته بلطف شديد على هذه العزلة الزمنية. وقالت: "لا يمكن أن تكون السعادة حقيقية إذا عزلنا اللحظة السعيدة عن اللحظات الماضية والمستقبلية. وأضافت: "تنصهر حقيقة المستقبل وحوادثه في نسيج ما نحياه الآن. ولذلك يعدّ الألم جزءاً من هذه السعادة اللحظية الحاضرة". قد نستنتج من هذا النص (المشهد) معانٍ فلسفية خاصة بطبيعة السعادة، وأنه لا يجب المبالغة في الطبيعة الكلية لهذا المفهوم، فثمّة لحظات جزئية ممتعة، تجعل لكل شيء قيمة، بغضّ النظر عن كمية هذه المتعة، أو درجة ترتيب الحوادث.
3467CF47-90FA-451A-87BD-72D9E261E143
خالد وليد محمود

كاتب وباحث، نشرت دراسات ومقالات عديدة. وله الكتب "شبكات التّواصل الاجتماعي وديناميكية التّغيير في العالم العربيّ" و"آفاق الأمن الإسرائيلي: الواقع والمستقبل" و"مراكز البحوث في الوطن العربي" و"قلاع اللغة العربية ورياح الثورة الاعلامية". ماجستير في العلاقات الدولية من الجامعة الأردنيّة.