يابان كلود ليفي ستروس

18 نوفمبر 2014
+ الخط -
احتفاءً بالذكرى الخامسة لغياب عالم الأنتروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي ستروس، لا أفضل من العودة إلى كتابَيه اللذين صدرا عن دار "سوي" الباريسية بعد عامين على وفاته ؛ الأوّل بعنوان "وجه القمر الآخر" وفيه كتابات تتمحور حول التجربة اليابانية ودروسها، والثاني بعنوان "علم الأنتروبولوجيا في مواجهة مشاكل العالم الحديث" وفيه المحاضرات التي ألقاها في اليابان عام 1986. 

يتحدّث ستروس عن نهاية سيطرة الغرب الثقافية، بعدما قدّم الغرب نفسه بصفته حضارة التقدّم، واقتفتْ أثره حضارات أخرى ظنًّا منها أنّه النموذج الأوحد. إذ سادَ الاعتقاد طويلاً أنّ المسار العلمي والتقني سيمضي قُدُماً نحو الأمام ويوفّر للعالم المزيد من القوّة والسعادة، وأنّ المؤسسات السياسية وأشكال التنظيم الاجتماعي التي ظهرتْ في فرنسا والولايات المتحدة الأميركية في القرن الثامن عشر، ستكون القدوة والمثال.

غير أنّ الأحداث التي شهدها العالم في القرن العشرين، ناقضَت تلك التوقعات المتفائلة، إذ انتشرتْ العقائد والإيديولوجيات التوتاليتارية، واندلعتْ الحروب. أكثر من ذلك، بدا أنّ العلم والتكنولوجيا، حتى في زمن السلم، لا تنتج عنهما فوائد فقط، وأنّ المبادئ الفلسفية التي جاء بها "عصر الأنوار" لم يعد من المؤكّد أنها قادرة على إيجاد الحلول للمشاكل الكبرى التي يطرحها الشرط الإنساني.

صحيح أنّ التقدم التقني والتكنولوجي وسَّع معرفتنا بالعالم الفيزيائي والبيولوجي، لكن الصحيح أيضًا أنّ انعكاسات هذا التقدّم لم تكن إيجابيّة بالمطلَق. فأسلحة الدمار الشامل تشكّل تهديدًا للجنس البشري وللأجناس الأخرى.

لم يعد لدى النموذج الغربي الآن، بالنسبة إلى ستروس، ما يقدّمه للآخرين، وثمّة ضرورة ملحّة للالتفات إلى قيَم بعض الثقافات والحضارات الأخرى، بما فيها تلك التي أَبادها الغرب نفسه. في هذا السياق، يشير إلى الثقافة اليابانية ويحدّد موقعها في العالم المعاصر، ويرى أنها تجمع، وبانسجامٍ كامل، بين الموروث والمعاصَرَة، بين التاريخ والأسطورة، فيما الغرب يفصل بينهما فصلًا تامًا. 

الثقافة اليابانية مميّزة بقدرتها على التأرّجح بين المتناقضات وتعاملها المَكين مع التقنية، من دون إلغاء دَور الحدس والتأمّل. أساليب الحياة والإنتاج تتوالى في الغرب، مرحلةً بعد أخرى، أمّا في اليابان فإنّها تتعايش فيما بينها، تأخذ منها وتعطيها في آنٍ واحد.

في رسمه الفروق بين طرائق التفكير الشرقية والغربية، يضع ستروس اليابان في موقعٍ مغايرٍ، لأنّها لا تمنح الفردَ الأهمية التي يمنحه إيّاها الغرب، ولا تنظر إليه كنقطة انطلاق لكلّ تفكير فلسفيّ، ولذلك فإنّ مقولة ديكارت: "أنا أفكّر، إذاً أنا موجود" هي مقولة غير قابلة للترجمة إلى اليابانية.

كلّ شيء في الغرب ينطلق من الفرد، بينما الفكر الياباني ينظر إلى الإنسان بصفته جزءًا من كلّ. بهذا المعنى، يصبح الفرد الياباني المرآة التي تتمرأى فيها انتماءاته كلّها، في المجتمع وفي الطبيعة على السواء. 

إذا كان اكتشاف أميركا يشكّل حدثاً عظيماً في تاريخ البشرية، فإنّ انفتاح اليابان، بعد أربعة قرون من ذاك الاكتشاف، هو أيضاً حدث عظيم. هكذا يضع ستروس اليابان وأميركا وجهًا لوجه، لا على المستوى الجغرافي فحسب بل على المستوى الثقافي. فحين دخلت اليابان الساحة الدولية بدت بدورها عالمًا جديدًا.

ولئن كانتْ فقيرة في الموارد الطبيعية فإنّ شعبها يؤلّف ثروتها الحقيقية ويقدّم صورة لإنسانيةٍ لم تتعب بعدُ ولم تستنفدها معارك الأفكار والثورات والحروب رغم المعوقات الداخلية والإقليمية والدولية. 

وإذا كان الفكر الفلسفي الياباني - كما الأفكار الدينية والفنون بعامّة - قد نهلَ، في الماضي البعيد، من روافد كثيرة منها الصين والهند وبلاد فارس واليونان القديمة، وإذا كانت اليابان قد أخذت، في الماضي الأقرب، من أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، فإنّها عرفت كيف تُصَفِّي ما أخذته وتغيّره بما يلائم حاجياتها لتدمجه في ثقافتها مع الحفاظ على الخصوصيّة والتمايز. الثقافة اليابانية، حسب ستروس، قادرة على تقديم نموذج يمكن الاقتداء به، شرقًا وغربًا. 

يبيّن لنا ستروس كيف تقرأ الأنتروبولوجيا المشاكلَ الأساسية التي تعاني منها البشرية اليوم، ويذكر، في إطار تأريخه لهذا العلم، اسمَين عربيَّين يشهدان على حسّ أنتروبولوجي مبكِّر؛ الرحّالة ابن بطوطة والمؤرّخ والفيلسوف ابن خلدون، وذلك قبل أن يبدأ في فرنسا هذا النّمط من التفكير مع كلّ من رابليه ومونتين. 

يبقى السؤال: لماذا لم يحاول العرب استيعاب التجربة اليابانية التي بدأت بعد الحرب العالميّة الثانية، وهي إحدى تجارب التحديث الناجحة في العالم، وأن يَفيدوا منها، لا سيّما من حيث المزاوجة بين التراث والمعاصرة؟ لماذا تعثّرت النهضة العربية التي شهدتها مصر والمشرق العربي في القرن التاسع عشر بينما نجحت النهضة في اليابان؟ لماذا لم يتمكّن العالم العربي الذي يملك هو الآخر تاريخًا عريقًا وطاقات بشريّة وثروات طبيعية وإمكانات مادية هائلة، من الانفتاح على العصر والمشاركة في صياغة الثقافة العالميّة؟ لماذا لم ينخرط فعلياً في اقتصاد المعرفة وفي الثورة التقنية والتكنولوجية فظلّ مستهلكًا لا منتجًا؟ لماذا لم يؤسّس لثقافة قائمة على العلم والعقل والحسّ النقدي، بل، بخلاف ذلك، أمعنَ في نَقض الجانب العقلاني والجمالي في تراثه، ورفَضَ الدخول في الزمن الحديث والإفادة من إنجازاته العلمية والمعرفية التي هي شرط أساسي من شروط الازدهار والتقدّم؟

المساهمون