مفقودو لبنان... سنوات من الانتظار لا تنتهي

مفقودو لبنان... سنوات من الانتظار لا تنتهي

31 اغسطس 2020
مفقودو الحرب الأهلية في لبنان (أنور عمرو/ فرانس برس)
+ الخط -

كأن أهالي المفقودين في لبنان عاشوا حياتين؛ الأولى سبقت خطف أحبائهم خلال الحرب الأهلية، والثانية هي العيش رهينة الماضي والانتظار لأن مصير أحبائهم ما زال مجهولاً. وقد يصعب على البعض تسمية تجربتهم بالعيش، بل النجاة

عام 1983، تُرِكَت اللبنانية سهاد كرم تواجه وحدها تداعيات حروب حوّلتها إلى مقاومةٍ وهي في ربيع عمرها، بينما كانت تنتظر أن تهدأ المعارك والرصاص حتى تعيش وزوجها سالم الأمان مع أولادهما الثلاثة ويكملوا معاً مشوار الحياة. وقفت أمام باب المنزل في منطقة عين الجديدة (محافظة جبل لبنان) تودّع زوجها وتتمنى له العودة بالسلامة. لم تكن تعلم أنّ المكان الذي ودعته فيه، سيتحول إلى قاعة انتظار لم تقفل صالتها منذ 37 عاماً.

قصّة سهاد تحوّلت إلى قضية وطنية ودولية مع أهالي وعائلات نحو 17 ألف مفقود ومخطوف خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ــ 1990)، ولم يفقدوا الأمل يوماً بمعرفة مصير أحبائهم، هم الذين شكلوا لجنة ونظموا تحركات واعتصامات ونشاطات متواصلة للتذكير بوجعهم المزمن وإبقاء ملفهم نابضاً بالحياة في ظلّ غياب السلطات اللبنانية وعدم إيلائه أي اهتمام.

النجاة لا الحياة
وفي مناسبة اليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري في 30 أغسطس/ آب، والذي صادف بالأمس، تقول سهاد وهي أمّ لثلاثة أولاد، لـ "العربي الجديد"، إن زوجها كان يبلغ من العمر 43 عاماً، وقد خرج عام 1983 من المنزل في عين الجديدة وخطف ولم يعد. "حتى اليوم لا نعرف أي شيء عنه، على الرغم من أننا بحثنا كثيراً، وتواصلنا مع مختلف الجهات للمساعدة على كشف مصيره، من دون جدوى".
وتتحدث سهاد عن مشوار شاق سلكته هي التي تزوجت في سن صغيرة، ولا تملك الخبرة والقدرة اللازمة لرعاية عائلة لوحدها، ما حتّم عليها تحمّل مسؤوليات مضاعفة في ظلّ الحزن والألم على اختفاء شريك حياتها. لملمت جراحها لتخرج إلى الحياة متسلّحة بقوّة ظاهرية وجسدية تبقيها صامدة قدر الإمكان. وسارعت إلى إيجاد عمل وبدأت كإدارية في مدرسة الجمهور حيث يدرس أولادها، وقد استمرّت في العمل مدة 35 عاماً قبل أن تتقاعد.
تلفت سهاد إلى أنّها تعذّبت كثيراً، وخصوصاً أنّ الكثير ممن تعرفهم هجروا الجبل إبان المعارك، وآخرون غادروا لبنان. كانت تخاف جداً على أولادها، في ظل ظروف مالية قاسية وراتب لا يكفي لتأمين مستقبل جيد لهم. على الرغم من ذلك، بذلت جهوداً بهدف تحقيق حلمها وزوجها بتعليمهم.

وتشير سهاد، التي تشارك في نشطات لجنة أهالي المفقودين والمخفيين قسراً في الحرب الأهلية منذ سنوات، إلى أنّها ومنذ عام 1983، تتعاطى مع الأيام من مبدأ "النجاة لا الحياة". فالانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/ آب الجاري، وطاولَ منزلها في شارع الجميزة المقابل للمرفأ أدى إلى إصابتها بجروح وقد أنقذتها العناية الإلهية. تضيف: "منذ البداية، أخبرت أولادي عن الحرب في لبنان، وعن والدهم الذي يتذكّره اثنان منهم جيداً. كان عمر الصغير عامين ونصف العام مع اختفاء أبيه، لكنه ما زال يعيش في ذاكرته. كنا نمضي كل فرحة بغصّة؛ التخرّج من المدرسة فالجامعة فالزواج والأحفاد والأعياد والمناسبات السعيدة ويكون زوجي الحاضر الغائب فيها. هذه أحلامنا التي كنا نتشاركها جميعنا، ونتحدث عنها، ونطمح إليها، وكان يستحقّ أن يعيشها معنا بتفاصيلها".

فرحة لم تكتمل
نضال طويل... كلمتان تختصران مسار لجنة أهالي المفقودين والمخفيين قسراً في الحرب الأهلية والهيئات والمنظمات المحلية والدولية، قبل تشكيل الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً بقرار صدر عن مجلس الوزراء اللبناني في 18 يونيو/ حزيران من العام الماضي، انطلاقاً من نصّ القانون رقم 105 الذي أقرّه مجلس النواب في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2018، الذي يشير في أبرز بنوده إلى حق معرفة أفراد الأسر والمقرّبين مصير ذويهم المفقودين أو المخفيين قسراً ومكان وجودهم أو احتجازهم أو خطفهم، إضافة إلى حق الاطلاع على أي معلومة ومعاقبة من يعرقل الحصول على معلومات أو يساهم في تضليل الحقيقة كما التعاون والتبادل، وحق الأسر والأفراد بالتعويض المادي والمعنوي، والتفتيش في المقابر واستخراج الرفات.
"هذه الفرحة التي انتُزعت بعد 36 عاماً لم تكتمل"، تقول رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين قسراً وداد حلواني، التي اختيرت لتكون بين أعضاء الهيئة الذين حلفوا اليمين أمام رئيس الجمهورية ميشال عون. تضيف في حديثها لـ "العربي الجديد" إلى أن الهيئة ما زالت مشلولة لأسباب ثلاثة، وهي عدم اكتمال أعضائها العشرة بعد اعتذار عضوين فيها (قاضٍ وطبيب شرعي)، وعدم تخصيص مقرّ خاص للقيام بعملها، وعدم تخصيص مساهمة مالية أو جزء من التمويل كي تباشر مهامها.
وتلفت حلواني إلى أنّ "وزيرة العدل ماري كلود نجم أرسلت اسمين من أجل تعيينهما. لكن بعد استقالة الحكومة جمّد الموضوع، علماً أنّ هذه الهيئة كان في إمكانها أن تقوم بعمل كبير في ملف مفقودي انفجار مرفأ بيروت، وتؤدي دوراً مهماً نظراً للخبرة والكفاءات التي يتمتع بها أفرادها في مثل هذه الظروف والأحداث، والتي اكتسبت بسبب وجع فقدان قريب أو عزيز، وهي الجهة الرسمية الأولى المخوّلة البحث ومتابعة قضية هؤلاء".

صحة
التحديثات الحية

تضيف: "للأسف، لم يصر بعد إلى تخصيص الهيئة بمقرّ خاص يخوّلها القيام بعملها، خصوصاً أن مهامها دقيقة، وتتطلب مكاناً يتمتع بمواصفات مناسبة من نواحٍ عدّة. كما أنّ عنصر المساهمة المالية مهمّ جداً لأن العمل يتطلب الاستعانة بموظفين إداريين ومتخصصين، وفريق يتابع قضية المفقودين. وحتى الآن، لم يخصص تمويل ضمن موازنة مجلس الوزراء، علماً أنه يحق لها بعد ذلك تلقي الدعم والهبات من هيئات محلية ودولية، ومن المعروف أن رئيس الهيئة وحده يتقاضى راتباً كونه يتفرّغ كلياً لهذا العمل، من دون بقية الأعضاء".
وترى حلواني أنّ هناك استخفافاً من جانب المسؤولين في لبنان بقضية أهالي المفقودين. "هم بالنسبة إليهم أرقام بلا أسماء، وكأن ليس هناك عائلات تنتظر معرفة مصير أحبائها، حتى لو كان الخبر مؤلماً. لذلك، على الحكومة، وإن كانت في مرحلة تصريف الأعمال، أن تعطي هذه القضية الاهتمام اللازم من خلال موافقة استثنائية بتعيين عضوين إفساحاً في المجال لتحقيق العنصرين الآخرين، كما فعل مجلس الوزراء وأصدر قرارات استثنائية في ملفات عدّة".

من جيل إلى جيل
من جهتها، تقول المتحدثة باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر، رونا حلبي، لـ "العربي الجديد"، إنّ "عمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر يتركز على جمع المعلومات والعينات البيولوجية وتوثيق البيانات والمعلومات المتعلقة بالمفقودين، ومرافقة الأهالي، خصوصاً أنّ الأثر الذي يتركه الفقدان على العائلات كبير جداً وله تداعيات على المستويين النفسي والاقتصادي، باعتبار أنّه لا يمكن التصرف بملك الشخص المفقود إلا بعد الاستحصال على إفادة وفاة، وهذا الأمر صعبٌ على الأهالي ويحمّلهم عبئاً كبيراً مع العلم أن الكثير من المفقودين كانوا معيلين لعائلاتهم. بالتالي، فإنّ التأثير لا ينتهي بل يستمرّ، وحق المعرفة ينتقل من جيل إلى آخر. وللأسف، هناك أشخاص غادروا الحياة ولم يعرفوا مصير أحبائهم. من هنا ضرورة تفعيل عمل الهيئة بعد حلّ الثغرات المتبقية من تعيين عضوين وتخصيص مقرّ لها وتأمين التمويل اللازم من قبل السلطات اللبنانية، لكشف مصير المفقودين وطي صفحة الحرب".
وتشير حلبي إلى أنّ عمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر لا يرتكز على كشف مصير المفقودين. فمنذ توليها الملف، تعمل على تجهيز الأرضية المناسبة حين تبدأ الهيئة عملها مع السلطات اللبنانية للكشف عن مصيرهم، كي لا تباشر مهامها من الصفر. "وسنضع خبراتنا كلجنة دولية بتصرف الهيئة ودعمها، على أن تكون حيادية وإنسانية وتحافظ على خصوصية الأهالي وسرية المعلومات، وهو ما تفعله اللجنة في بلدان عدّة حول العالم في هذا الإطار، على أمل أن تسارع السلطات اللبنانية في حلّ مسألة الهيئة لما لهذه الخطوة من أهمية كبيرة في كشف مصير المفقودين، كي لا نخسر المزيد من الأشخاص فيرحلون وهم لا يعلمون مصير أحبائهم وأولادهم".

وتلفت حلبي إلى أنّ اللجنة الدولية للصليب الأحمر تمكنت من توثيق 3 آلاف حالة من الذين فقدوا خلال الحرب الأهلية (1975 – 1990)، بعد التواصل مع العائلات وجمع العينات البيولوجية وإجراء تحاليل الحمض النووي (DNA). ولكن هذا الأمر لا يعني أن الرقم نهائي، والحملة مستمرّة ودائماً ما نطلب من العائلات أن تتقدم بطلب ومعلومات عن الشخص المفقود للمساعدة في هذا الإطار، ونحن نتابع جمع وتخزين العينات البيولوجية.