معركة "اللام" في تونس... المأزق الدستوري وضبابية المشهد السياسي

معركة "اللام" في تونس... المأزق الدستوري وضبابية المشهد السياسي

11 فبراير 2020
+ الخط -
لا يخفى على أحد أن الجمهورية الثانية في تونس تعيش وضعا انتقاليا حسّاسا بعد سقوط نظام بن علي وصعود قوى ثورية جديدة ما زالت "غضّة" سياسيا، ورغم النجاح الباهر في الحفاظ على المسار الديمقراطي فإن بعض الإشكاليات القانونية قد اعترت فصول دستور 2014، وجعلت الوضع في طريقه إلى التعقيد، خاصّة وأن عدم إعطاء مجلس النواب الثقة الكاملة لحكومة الحبيب الجملي، انجرّ عنه تأسيس وضعية غير سابقة لم يعهدها فقهاء القانون الدستوري، بل إن وضعية عدم منح الثقة تلك لم تشهدها الأنظمة العربية قاطبة.

وعليه، فإن الوضع دقيق جدا، يستوجب أساسا اللجوء إلى تراكمات فقه القضاء الدستوري وما يستتبعه من قرارات مجالس الدولة في كل العالم، لفهم هذه الوضعية المعقّدة التي من شأنها أن تؤخر إرادة حلحلة الأزمة الدستورية في تونس.

ولفهم تعقيدات الوضع الدستوري الراهن في تونس لا مناص من اللجوء إلى مقارنة موضوعية بين دستور يونيو 1959 ودستور يناير 2014، حيث جاءت مقتضيات بنود الدستور الأوّل بسيطة اتّسمت بسهولة التفسير في مرحلة أولى وسلاسة التأويل في مرحلة ثانية، حيث تطرّقت إلى مسألة حجب الثقة عن الحكومة برمّتها، واعتبرت أنه في صورة عدم موافقة مجلس نواب الشعب على رئيس الحكومة وأعضائها يمكن لرئيس الجمهورية وبسلاسة كبيرة دعوة رئيس حكومة جديد لتولي المنصب وتكوين حكومة جديدة تعرض في مرحلة أخرى على المجلس للموافقة عليها دون أي إشكال، ما دام النظام المعمول به نظاما رئاسويا محضا يمنح سلطات واسعة لرئيس الدولة.


وحتى لائحة اللوم التي قد يلجأ إليها أعضاء مجلس نواب الشعب في بعض الحالات، فإنها تخصّ فردا واحدا أو عددا من وزراء الحكومة وليست الحكومة برمتها، مما يستوجب تعويضهم بوزراء آخرين دون أي إشكال يمكن يعطّل المسار برمته.

على عكس دستور 1959 كان دستور 2014 شديد التعقيد في مثل هذه المسائل بحكم ضبابية النظام السياسي المعمول به في تونس، فلا هو نظام رئاسي محض، ولا نظام برلماني صرف، بل هو أقرب إلى نظام برلماني جزئيا، أو ما يطلق عليه في أخرى بالنظام البرلماني المعدّل، تختلف فيه آليات الاحتجاج على الحكومة عن النظام الرئاسي.

فحجب الثقة في النظام البرلماني المعدّل يعني سقوط الحكومة برمتها والعودة إلى المربع الأوّل ليمنح هذا الحق بعد ذلك إلى رئيس الجمهورية في اختيار الشخصية الأقدر أو الأكفأ لتكوين حكومة جديدة حسب مقتضيات الفصل 89 من دستور 2014، وهذا في حذ ذاته لا يمثّل إشكالا ما دامت الحكومة في طريقها إلى المرور بموافقة 109 أعضاء في مجلس النواب.

يطرح الإشكال فعليا متى تعنّتت كتل المجلس ورفضت تمرير الحكومة وحجبت عنها الثقة كما فعلت مع الحكومة السابقة، حيث جاء في مقتضيات الفصل 89 من الدستور ما مفاده بأن "لرئيس" الجمهورية الحق في حل مجلس نواب الشعب والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكّرة.

مربط الفرس الحقيقي يتمثّل في حرف اللّام الذي يصحب كلمة رئيس، إن كانت آلية حل مجلس نواب الشعب لا تمثل مشكلة عويصة مبدئيّا أمام الرئيس كفرضية ممكنة، فإن المأزق الحقيقي يبرز متى قدّم حرف اللام هديّة لا يتوقعها أحد، متمثلة في أن حل مجلس النواب الشعب ليس الفرضية الوحيدة التي من الممكن أن يعتمدها رئيس الجمهورية، بل يضع أمامه فرضيّات شتّى ربما لا يمكن أن يتوقّعها حتى فقهاء القانون الدستوري.. منها على سبيل المثال الإبقاء على حكومة تصريف الأعمال التي يقودها السيد يوسف الشاهد إلى ما لا نهاية، في تحييد كامل لدور الحقيقي المنوط بعهدة مجلس نواب الشعب.

الإبقاء على حكومة تصريف الأعمال في حدّ ذاته قد يذهب بنا إلى طرق شتّى، منها أيضا على سبيل الذكر، وليس على سبيل الحصر، أن تلتجئ الكتل البرلمانية الكبرى في المجلس إلى تجميع أصواتها والذهاب إلى استعمال آلية عزل رئيس الجمهورية بثلثي أعضاء مجلس نواب الشعب حسب مقتضيات الفصل 88 من دستور 2014، وهو على كل حال لا يعتبر زيغا أو انحرافا عن الطريق القويم بقدر ما يمكن اعتباره من صميم العمل الدستوري الحقيقي، منحه الدستور لأعضاء مجلس النواب.

ورغم أن الفصل 88 من الدستور قد ربط مسألة عزل رئيس الجمهورية بصورة خرق الدستور، فإن تلك الصورة لم تأت حصرا، بل أتت مقتضياتها ذكرا، بل أكثر من ذلك يمكن التنصيص على أن عبارات الفصل في حد ذاتها اتسمت بالإطلاق والتوسيع لا بالانغلاق والتضييق، وعليه فإنه إذا جاءت عبارات النص القانوني مطلقة جرت على إطلاقها.

وتلخيصا لما سبق عرضه، يمكن القول إن استقرار المسار الديمقراطي في تونس لا يمكن بأي حال إلا أن يساهم في حلحلة الوضع الدستوري، مهما شهد تعقيدات إجرائية أو واقعية، ما دامت الإرادة الحقيقية نحو بناء دولة ديمقراطية ديدن جميع السياسيين وحتى المواطنين التونسيين رغم صعوبة الوضع الاجتماعي والاقتصادي.