مسرح دُمى دَمَويّ !

مسرح دُمى دَمَويّ !

20 يناير 2015
+ الخط -
تتزايد الأسئلة والتكهّنات حول ما تخبّئه الأيام المقبلة بالنسبة إلى أوروبا بشكل عامّ وفرنسا بالأخصّ، بعد الاعتداء الدموي على مجلة "شارلي إيبدو" الساخرة. من هذه التساؤلات: هل أنّ تصفية عدد كبير من محرري ورسّامي هذه المجلّة هو فاتحة لأعمال عنف أخرى؟ كيف سينعكس ذلك على المهاجرين وعلى الفرنسيين من أصول عربية وإسلامية؟ ما الذي سيتغيّر بعد هذه الحادثة؟ وهل ستتضاعف النزعة العنصرية مقابل نزعة التطرّف؟ هل أنّ ثمة حدوداً لحرية التعبير؟ هل الأحداث التي شهدتها فرنسا وردود الفعل عليها، قولاً وفعلاً، ستعطي صدقيةً لأطروحات برنارد لويس وصموئيل هنتنغتون حول صراع الحضارات؟ أليس الصراع القائم اليوم هو أيضًا صراع ثقافي بقدر ما هو صراع سياسي؟ 
باسم حرية التعبير التي نظر إليها رسام الكاريكاتور ومدير تحرير "شارلي إيبدو" ستيفان شاربونييه (المعروف باسم شارب) بصفتها هِبَة المجتمعات الديمقراطية، وتحققت بعد مسار طويل من الصراع الفكري والنضال والحروب، نُشرَت الرسوم الكاريكاتورية التي تمثّل رسول الإسلام. كان ذلك في نوفمبر/تشرين الثاني 2011. ولقد أثارت تلك الرسوم يومها سجالاً واسعاً، وتظاهر ضدّها، في بعض أنحاء العالم، ملايين المسلمين. كما أنّ أحد مؤسسي المجلة الفرنسية، وهو ديلفيل دو تان الذي يعمل حالياً في مجلة "لونوفيل أوبسرفاتور"، رأى أنّ نشرَها ينطوي على مزايدات خَطِرة، ما يدفعنا إلى طرح السؤال الساذج التالي: ألا يعرف فريق مجلة "شارلي إيبدو" أنّ ثمّة عالماً في هذا العالم لا يرضى بذاك النوع من السخرية ويعدّه ضرباً من التهكّم والاستهزاء بالرموز الدينية والمقدّسات؟ ألا يعرف أنّ ثمة عالماً داخل هذا العالم لا يزال يطبِّق حدّ الرجم والجَلد وقطع الأيدي والرؤوس؟ وإذا كانت تلك الذهنية لا تتساهل مع أبنائها أنفسهم فتجلدهم وتقطع رؤوسهم وأوصالهم، فهل ستكون أكثر رحمة مع الآخر البعيد، هويةً ومعتقَداً؟ 
ما ضاعف من حدّة تأثير هذه الرسوم التي واصلت المجلة نشرها في السنوات الماضية أنها جاءت متزامنة مع تفاقم الشعور المعادي للإسلام في الغرب، وأيضاً مع صعود الحركات الإسلامية المتطرّفة، وانتشار النزوع الجهادي التكفيري في غياب نهضة فكرية وسياسية، وهذا ما يُسَوّغ، بالنسبة إلى اليمين المتطرف، خطابه العنصري والعدائي الذي يتقاطع أيضاً مع توجّهات بعض الوسائل الإعلامية. والضجّة التي رافقت صدور كتاب الروائي الفرنسي ميشال ويلبيك "خضوع" (إشارةً إلى الإسلام)، جاءت في هذا السياق. رواية ويلبيك أرادت أن تكون مرآة لخوف فئة متزايدة من الفرنسيين والأوروبيين عموماً حيال الإسلام وحيال المسلمين الذين أصبحوا، في نظر هؤلاء، في موضع المتّهَم والمشكوك في أمره، لكنّها مرآة مشوّهة ومنحرفة أخذت الخوف إلى أقصاه عندما تخيّلت أن فرنسا سيحكمها شخص مسلم عام 2022. وهذا، عملياً، أمر مستحيل لأسباب عدّة، أبرزها أنّ العرب أقوياء عدديًا، لكن حضورهم السياسي هنا شبه معدَم. ويلبيك هو أحد المتاجرين بالخوف والعاملين على تغذيته، إلى جانب أسماء عدّة من بينها برنار هنري ليفي وألن فنكلكروت وإريك زيمور. ولقد شكّل كتاب هذا الأخير أيضاً، وعنوانه "الانتحار الفرنسي"، أحد ظواهر النشر الفرنسي في الآونة الأخيرة. هؤلاء يستعملون الخوف بصفته سياسة واستراتيجية، تحت غطاء ثقافي فكري، أدبي وإعلامي، تمامًا مثلما يستعمله الطغاة كإحدى أدوات حكمهم واستبدادهم. 
التحدي الذي يفرض نفسه اليوم في فرنسا هو تحدّ مزدوج يتمثّل في استعادة فرنسا أبناءها من العرب والمسلمين (لا سيّما الأجيال الشابّة) ومساعدتهم على الاندماج داخل برامجها التعليمية وفي مجتمعها وثقافتها ودورتها الاقتصادية، ومن جانب آخر، سعي المسلمين إلى استلام زمام المبادرة والعمل على قراءة علمية موضوعية للدين تضع حدّا لاستعماله من قبل البعض كغطاء لجرائم لا إنسانيّة، لئلا يغدو الدين ملجأ للانتقام، وكذلك إعادة الاعتبار للبعد العقلاني والانتصار للفكر النهضوي التنويري الذي كان أصحابه، في الغالب وعلى مرّ العصور، ضحية أنظمة الطغيان أو الفكر التكفيري، أو الاثنين معاً. 
نحن اليوم، وأينما كان، أمام هَمَجيّتَين تهددان الجميع: همجيّة التطرّف الديني والتعصّب والجهل والإرهاب من جهة، وهمجيّة مصالح الدول العظمى والسباق إلى السلطة والمال ومصادرة الثروات الطبيعية والتحصّن بالمواقع الاستراتيجية، من جهة ثانية. ويتوقّف على كيفية التصدي لهاتين الهمجيّتَين، وهي مسؤولية مشترَكة، مستقبل العالم في العقود المقبلة.


المساهمون