محطات في الثورة (1): داريا... الانطلاقة
في يوم الجمعة 25 مارس/ آذار 2011، وبعد أسبوع عاصف من الأحداث في درعا، توجهت إلى أداء صلاة الجمعة في مسجد أنس بن مالك في مدينة داريا، حيث كان خطيب الجمعة هو الأستاذ نبيل الأحمر، وقد كان مسجد أنس وخطيبه الأحمر بالنسبة لي ولغيري من شباب داريا أكثر المرشحين لتفجير غضب ناري في الخطبة حتى تنطلق المظاهرة الأولى التي كنا نترقبها.
كان لهذا الظنّ ما يبرره، فبالنسبة لمسجد أنس بن مالك كان له ولخطيبه السابق المعتقل الأستاذ عبد الأكرم السقا، دور ريادي في نشر الوعي والسعي للتغيير، حيث أسس السقا وطلابه مجموعة الحراك السلمي الأولى في المدينة، هذه المجموعة التي استفزت نشاطاتها التي بدأت في شهر رمضان من عام 2000 نظام الأسد، حين دعت إلى حلقات حوارية ونقاشية بعد صلاة التراويح في المسجد، بعد أن كانت تعرض أفلاماً هادفة مثل فيلم عمر المختار في المسجد نفسه. نقاشات وحوارات كانت دون أطر وحدود مسبقة من أجهزة الأمن، كما جرت العادة بالنسبة لأي نشاط جماعي في المسجد أو في أي مكان آخر في سورية.
كان منع المجموعة والأستاذ السقا من مزاولة أي نشاط في المسجد، أول نتائج ذلك الاستفزاز، لترد المجموعة على قرار المنع بأول مظاهر حراكها السلمي، والذي تمثل في الاعتصام الذي نفذته في الساحة المقابلة للمسجد. وأتبعت المجموعة الاعتصام بمجموعة من النشاطات كيوم للنظافة قامت خلاله بتنظيف بعض الشوارع الرئيسية في المدينة، ثم حملة ضد الرشوة والفساد وزعت خلالها المجموعة منشورات توعوية، لتستمر الأنشطة بشكل متواتر حتى يوم سقوط بغداد حين خرجت في مظاهرة دعماً للعراق ثم بدأت حملة لمقاطعة البضائع الأميركية، لتقوم الأجهزة الأمنية على إثرها باعتقال المجموعة في مايو/ أيار 2003 ليطلق سراحها لاحقاً في أواخر 2005.
كان لما جرى مع مجموعة شباب داريا الأولى وأستاذها عبد الأكرم السقا، دور في إرهاب وتخويف كل من يفكر من خطباء المساجد أن يلعب دوراً أو يدعو للتغيير، حتى وإن كان إطار الدعوة للتغير محصوراً بالحدود الاجتماعية والثقافية، إلا أن ذلك لم يمنع مجموعة من الأساتذة في المدينة من الاستمرار في العمل من أجل التغيير، وكان من ضمنهم الأستاذ عبده كوشك والأستاذ أبو عمر عليان الذي أعدمته قوات الأسد خلال مجزرة داريا، والذي كان ممنوعاً من الخطابة حين بدأت الثورة، والأستاذ نبيل الأحمر الذي كان من المعروفين بشجاعتهم وسعيهم الحثيث للتغيير وبمواقفهم العلنية ضد الفساد، والأهم من كل ذلك الرقابة اللصيقة والتضييق المستمر من الأمن على تحركاتهم، وجدير بالذكر هنا أنّ الأستاذ نبيل قد استشهد تحت التعذيب في معتقلات الأسد، وكانت صورته إحدى الصور التي تم تسريبها ضمن "صور قيصر".
انطلقنا بسرعة نحو مسجد العباس، وفور وصولنا كان الناس يهمون بالخروج من المسجد، وفي لحظة لا ينساها أحد من شباب داريا أطلق غياث شربجي صيحة الحرية الأولى في المدينة: حرية حرية حرية!
عودة إلى مظاهرة الغضب الأول في داريا في يوم جمعة العزة في 25 مارس/ آذار 2011، فقد جمعتني الصدفة يومها مع رفيق المقعد الدراسي الشهيد غياث مطر والبطل المعتقل أنس أبو بسام، دون أدنى تنسيق، كنا في صف واحد نرقب كلمات خطيب مسجد أنس بن مالك، لكنها على غير المأمول كانت أهدأ مما كنا نتوقع.
انفض الناس من المسجد، وكانت حالة الحنق بادية على غياث وأنس، وقبل أن يتصاعد غضب عدم انطلاق المظاهرة أكثر، استقبل غياث مطر اتصالاً على هاتفه المحمول، ثم أغلق الهاتف وصرخ: معكم سيارة؟ المظاهرة ستنطلق بعد قليل من مسجد العباس في وسط داريا!
في الوقت الذي كان معظمنا يتوقع أن تفجير الغضب سيكون في مسجد أنس أو المصطفى أو مسجد حزقيل، مجموعة محدودة من الشباب كانت قد اختارت مسجد العباس وأبلغت أصدقاءها المقربين بأنّ المظاهرة ستنطلق هناك فقط قبل دقائق من انطلاقها، كان ذلك مخالفاً لتوقعات الجميع، بمن فيهم الأمن، وهذا ما جعل الاختيار حينها ذكياً ومدروساً، ذلك أنّ المجموعة التي خططت للمظاهرة كانت قد وضعت في اعتبارها مجموعة من الاحتمالات التي ينبغي التعامل معها بحذر، في مقدمتها عدم المشاركة الواسعة من الناس، ووجود استنفار للأمن بالقرب من مسجدي أنس والمصطفى، قد يؤدي إلى قمع سريع ووأد فعلي للمظاهرة الأولى، وهو ما سيجعل تنظيم مظاهرة ثانية أمراً أكثر تعقيداً وصعوبة.
انطلقنا بسرعة نحو مسجد العباس، وفور وصولنا كان الناس يهمون بالخروج من المسجد، وفي لحظة لا ينساها أحد من شباب داريا أطلق غياث شربجي صيحة الحرية الأولى في المدينة: حرية حرية حرية!
سادت لحظة من الصمت الرهيب، وبدأ الناس يتبادلون النظر إلى وجوه بعضهم البعض، بالعودة إلى تلك اللحظات فلم يكن مستغرباً تخوّف الناس في البداية ورهبة انتظار ما سيحدث، فقد كنا نكسر حاجز صمت راكمه نظام الأسد بالخوف والدم طيلة أربعة عقود.
بعد لحظات الصمت تجمعت حشود الأهالي وبدأ الجميع يردد هتافات الحرية خلف غياث شربجي، ثم صار هناك أكثر من غياث: محمود شركس، غياث مطر، شفيق الون، محمد شحادة أبو يزن، وأسامة وعشرات وآلاف من الشباب عبر سورية دفنوا الخوف يومها وأعلنوا ولادتهم من جديد.
وتتالت هتافات الدارانيين بروح واحدة وأصوات كثيرة: "يا درعاوي دمك دمي وهمك والله هو همي"، "يا درعا داريا معك للموت"، "يا بثينة ويا شعبان الشعب السوري مو جوعان".
بالنسبة لي ولقراءتي لوجوه الشباب في ذلك اليوم، كان أكثر يوم نشعر فيه بهويتنا السورية ونؤمن بها، ونتلمس ارتباطنا الوطني بحوران وبانياس وبكل بقعة من أرض سورية، كما يتلمس حديث الولادة يد أمه للمرة الأولى، كانت لحظة الاعتزاز الحقيقي بالوطن وبالانتماء لشعبه.
استمرت المظاهرة الأولى التي شارك فيها أكثر من 2000 من أبناء المدينة، والتي توقع المخططون لها أن تكون خاطفة، لأكثر من ساعتين ونصف، جابت شارع الثورة ثم شارع الشام كما يسميه أهالي داريا، ثم شارع الكورنيش، ومنه إلى مسجد الخولاني، ولست أملك تفسيراً لعدم وجود الأمن والمخابرات في المدينة يومها، سوى تصريح بشار الأسد الذي استبعد فيه أن تصل رياح الربيع العربي إلى سورية، لكن داريا التي تبعد عن قصره أقل من ثمانية كيلومترات والمحاطة بأضخم قلاع النظام الأمنية والعسكرية، كان لها كلمة أخرى.
لم يعد أي من المتظاهرين إلى بيته إلا بعد أن باتت حنجرته عاجزة عن إصدار صوت من شدة الحماسة للهتاف، ليفاجأ الجميع بعد عودته إلى بيته أنّ قنوات من ضمنها "بي بي سي عربي" قد بثت مشاهد مباشرة من المظاهرة، بدأ على إثرها جهاز المخابرات الجوية حملة لاعتقال من ظهروا ومن شاركوا ومن حرضوا على تلك المظاهرة، ولتبدأ بعدها أولى حلقات المواجهة بين ثوار المدينة وبين النظام المجرم.