ما وراء تسجيل القسام عن آسري "شاليط"

ما وراء تسجيل القسام عن آسري "شاليط"

07 يناير 2016
تعمّدت القسام إذلال الاحتلال وأجهزته الأمنية (الفيسبوك)
+ الخط -
لم يكن استشهاد "عبد الرحمن المباشر" سبباً كافياً لإخراج القدر المهول من المعلومات، والذي أخرجته كتائبُ القسام حول أسيرها السابق "جلعاد شاليط" وظروف احتجازه، نعم للشهداء رمزيّة عظيمة لدى كل حركة تحرر، هم وقودُ ثورتها، ومناراتُ هدايتها، وبُرهان صدقها الماثل للعالمين، وتكريمهم واجبٌ عليها وحقّ، لكنّ "القدرَ" الذي أُخرج، والتفاصيل التي أُبرزت، حملت في ما يبدو غاياتٍ تتجاوزُ مجرّد التكريم.


ثمة محاولة من القسام لتوثيق عملية أسر "شاليط" واحتجازه، والتفاوض حوله، وفق ما تستحقّ، وتكريسها عملية "معجزة"، أو كما سمتها مرّتين خلال التسجيل: "أعقد عملية في تاريخ الصراع"، وتذكير المتابعين جميعاً بمعنى احتجاز جنديّ صهيوني، لمدّة خمس سنين، في قطاع غزة الذي يبدو كرأس دبّوس في خارطة العالم، والمحاصر براً وجواً وبحراً، والمراقب بكلّ أنواع المراقبة، ثم المفاوضة عليه من منطلق راحةٍ وقوّة واقتدار.

في الأمر "إعجازٌ" فعلاً، لكنّ أهمّ ما يقال في تفسيره، هو الحاضنة الشعبيّة القويّة التي توفّرت للمقاومة في غزة، ولا يمكن إغفال ظروف ما بعد الحسم العسكريّ، وبسط حماس سيطرتها على غزة، وإخلائها من الأجهزة الأمنية، والتي لم تألُ جهدا في محاولة جمع المعلومات حوله من بعيد، ولو كانت لا تزالُ في غزة، لربّما كان لشاليط شأنٌ آخر.

حاولت كتائبُ القسام أن تُقدّم نفسها خلال التسجيل، قوّة مقاومة ذات مستوىً أخلاقيّ عال، والتزامٍ رغم الظروف الأمنية بالغة التعقيد، بأصول معاملة الأسرى، وظروف الاحتجاز المُرضيّة إنسانيا، ناسبةً ذلك إلى سماحة الإسلام، والتي تعرّضت إلى تشكيك كبير أخيراً، بأيدي المتعصّبين من أعدائه، فحرصت على إظهار "شاليط"، يتلقى معاملةً إنسانية راقية، بمشاركة الأكل مع سجانيه، واحتجازه في ظروفٍ صحية حيثُ كان واضحاً أنه يرى الشمس والهواء، يتواصل مع أهله ويتلقى رسائلهم، ويتابع وسائل الإعلام، وتُقدّم له برامج ترفيهية ربما لم يحلم بها أسيرُ حرب، حيثُ يؤخذ للبحر، ويباشرُ بنفسه شيّ الدجاج على الجمر!

لا شكّ أن القسام أرادت التنويه بالفرق الأخلاقيّ بينها كجناحٍ عسكري يتبع حركة تحرر، وجيشٍ عنصريّ يتبع كيان الاحتلال، فلا تكادُ تُحصر أخبارُ اضطهاد الأسرى، وسوء معاملتهم، وإهمالهم طبياً حتى الموت، والتنكيل بأهليهم، ومنعهم من التواصل معهم سنين، ورغم ذلك، فإن العالم الأعور يُصنّف كتائب القسام رسمياً على قائمة الإرهاب، بينما يُدافع بجنون وبلاهة عن كلّ خطوةٍ عسكرية للاحتلال. ما عرضتهُ القسام لم يكن فضحاً للاحتلال فقط، بل إحراجاً للعالم بأسره.

كذلك بيّضت كتائبُ القسام من خلال ذلك صفحة الأمّة الإسلاميّة، ودافعت بأحسن طريقة عن الإسلام وأهله، وعرضت صورةً مقابلة للصورة الشوهاء التي رسمها ذبّاحو الصحافيين، والنشطاء الإنسانيين، من خلال التسجيلات المريعة في طريقة التعامل مع الأسرى، قتلاً بشعاً للرجال، وسبياً للنساء والأطفال.

تعمّدت القسام أيضاً إذلال الاحتلال وأجهزته الأمنية، فركّزت على تكذيب كلّ ما صدر عن المسؤولين الصهاينة، أو نقلته صحافة الاحتلال المؤتمرة بأمره، بخصوص ظروف احتجاز "شاليط"، فها هو يظهرُ وخلفه النوافذ ذات الستائر، لا في أعماق نفقٍ سحيق كما ادّعى الاحتلال، تجنباً لاتهامه بالعجز عن اكتشافه، ودفاعاً عن فشله في الوصول إليه.

كما بذل صنّاع التسجيل المثير جهداً كبيراً في توضيح طريقة استشهاد كلّ من أفراد الوحدة الخمسة، وكيف أنّهم جميعاً قضوا في قتالٍ على الجبهة، أو قصفٍ لم يتقصّدهم بسبب عملهم في الوحدة، وأنّ الاحتلال فشل في الوصول إلى أيٍّ من الشهداء الخمسة، بالرغم من أنّهم، كما أوضح التسجيل، كانوا يجلسون بوجوهٍ مكشوفة أمام الجنديّ، وإمكان تمييزه لهم سهل في حال التوصّل إلى مشتبهٍ بهم، وهذا يعكسُ قوّةً أمنيًة بالغة المتانة والتعقيد.

ثمة هدف كبير تمّ تحقيقُه بنشر التسجيل أيضاً، وهو إثارة البلبلة في المجتمع الصهيونيّ، واستهداف معنويات الجنود الصهاينة، حيثُ هوجم شاليط بقوّة في مواقع التواصل، وفي التعليقات على المواقع الإخبارية، وانقسم الناسُ حوله، بين قلةٍ مدافعةٍ عنه، وأكثرية رأته غير مستحقّ لتضحية "إسرائيل"! ما استدعى عائلته لنشر تصريح تدافع فيه عن ابنها مدعيةً أن التسجيل "يعطي صورةً مشوهة عن خمس سنين في الوحدة والأسر"!

ربما يمكنُ استلهام رسالةٍ أخرى تستهدفُ الجنود خاصةً، تدعوهم لتفضيل الاستسلام على الموت، وتقولُ لهم: إنّكم لن تذهبوا إلى الرعب والمجهول حال وقوعكم في الأسر، بل لتقضوا وقتاً جيداً قبل الإفراج عنكم في صفقة تبادل، وهي رسالةٌ التقطها بعضُ المعلّقين الصهاينة في يوتيوب، وتندّر بها، ورأى التسجيل المنشور دعاية للوقوع في أسر "حماس"، وهي ليست مجرّد نكتة، بل لعلّ أبوي الجنديّ الذي قاوم الأسر في "نحال عوز" يلومانه كثيراً الآن إذ لم يسلم نفسه، وفضّل أن يُقتل في الموقع!

كل هذه إشاراتٌ يمكنُ التقاطُها من ضربة القسام الإعلامية الأخيرة، غير أنّ أهمّ إشارةٍ برأيي، هي استهدافُ معنويّات أهالي الجنود المفقودين/ المأسورين بغزة، فلا يمكنُ تخيّل مشاعرِ أمّهات هؤلاء الجنود، إذ يرون "جلعاد" الأسير السابق لدى حماس، يعيشُ بهدوء بين خاطفيه، يأكل، ويشرب، ويبتسمُ كثيراً! لا حدود لما يمكنُ أن تفعله ابتسامةُ "جلعاد" وهو في الأسر بقلوبهنّ، تُحيي الأمل، وتشعلُ الحماسة لضغطٍ قويّ ومنظّم يُطالبُ قادة الاحتلال بالعمل على صفقة تبادل تحرر الأسرى الفلسطينيين.

(فلسطين)

المساهمون