مائة يوم من العزلة

مائة يوم من العزلة

23 يونيو 2020
+ الخط -
مائة يوم من العزلة. عيدُ ميلاد بنكهة ترقب الموت يستحق نخبا رفيعا. نقيمه امتنانا على دروس دُسنا عليها، تأبى كورونا إلا رجمنا بها من كل جانب. لقد عرفتنا على هشاشتنا القزمية في مواجهة صريحة مع عدو غير معلن، لا يصنف أنه كائن حي أصلا. وهي بذلك تعيد حكاية النمرود الجبار الذي قتلته ذبابة، إلى مسرح التاريخ. أما مُصابنا نحن فكان أكثر جللا. لأن كورونا حكمت بالإعدام وإرسال الناس إلى العدم. أما الباقون أحياء، فالمؤبد والإقامة الجبرية كانا نصيبهم.

يعني ذلك أنها جرحتنا في حريتنا -أو النُزر اليسير الذي توهمنا تملكه بعلاته وعلى ضآلته-. حرية طالما صدحنا وتبجحنا بها حقا لا يُساوم. مقياسا للقداسة الإنسانية في التفكير واختيار السفر والتعليم والشغل. ها نحن اليوم نُحرم حتى قدرة التصرف في دقائق أيامنا الهاربة منا هباء منثورا.


ولأن الفيروس رجل اقتصاد محنك بتكوين صيني غني رصين، فقد قايض في صفقته حريتنا بعزلتنا، مُفجرا بذلك ناموسا إنسانيا ما اعتقدنا يوما بقابليته للمس صاغه قديما اليونان المفلس اليوم حينما قالوا إن: "الإنسان اجتماعي بطبعه". طبعا يزكي القائد والمقدم شعارنا ذاك. مع إضافة جملة اعتراضية على زيهم الرسمي تقول: "علينا المحافظة على الإنسان أولا. وبعدها نمنحه صفة الاجتماعي. الأهم هو أن تبقى في منزلك، مزرعتك، قصرك، كوخك". حتى يحين موعد طلاقك أو جنونك سواء بسبب عزوبيتك أو الأفكار الآخذة في التحرش بك نتيجة غياب حلاقك.

هنالك تعلمنا أن الحلاق أعلى شأنا من ميزانيات الثكنات العسكرية الصاروخية. رتابة الحياة، بطؤها جعلتنا مدركين أمورا كانت السرعة بيننا وبينها حجابا. كشف لنا الحجر أن الضجيج الخارجي مكياج قبيح لشفافية الذات. فباتت العزلة وغياب الجمهور والكاميرات والتصفيقات علامة على شجاعة، ثبات وثقة تلك الذات. لأن الإغراق في العيش مع الآخرين ينحت هاوية يتضخم بمحاذاتها الفرد وصولا لسقوط محتوم. هنالك خيط رفيع بين عقلية القطيع وكون الإنسان اجتماعيا بالطبع.

حكمة ثانية. بمثابة بديهية مصيرية زحزحها الحجر الصحي، هي الوقت. فلأول مرة باتت حكمة "الوقت كالسيف إذا لم تقطعه قطعك" بلا معنى. السبب أن غياب الحرية جعل فائض الوقت المتوفر متضخما كعُملة لا قيمة لها. حتى أن الناس أصبحوا يعرضونه للبيع مجانا في أنشطة غاية في العبثية والسخافة مثل ملاحظة مشية الزوجات الغريبة. وعد الشامات في وجوه الرجال.

لا شك أنه من الواجب ترك شيء من الوقت للوقت كما قال الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران: أي الاستفادة من أوقات للراحة بعد كل جهد. وهو المغزى الحقيقي من وجود العطلة. لكن أن تصبح الراحة هي الأصل. ونكون أما عطالة كلية لا أمام عطلة فيها استراحة محارب. فذلك ما يفسر معايشتنا لمنعطف، انقلاب جذري في تصوراتنا إزاء الإنسان. نأمل بشدة توفر وقت ما بعد كورونا لتأمله جيدا.