لساني المربوط ورِجل جارنا الخدرة

لساني المربوط ورِجل جارنا الخدرة

08 ابريل 2017
+ الخط -

 

بدأت القصة عندما تعرفت قبل أشهر على البيت من خلال الإنترنت. الأمور بدأت بطريقة ممتازة، فقد أعجبني المكان وقررت استئجاره. سبق الاتفاقَ بعضُ التعارف بيني وبين مالكي البيت، وهما رجل ثمانيني وزوجته الخمسينية. يتضح من خلال أسمائهما أنها ليست زوجته الأولى أو أنه ليس زوجها الأول، فابنه الأكبر ليس نفسه ابنها الأكبر. وتعيش معهما ابنتان في منتصف العشرينيات.

تعقدت الأمور عندما سألتني الزوجة عن تخصصي في الجامعة. وارتكبت واحدا من أخطاء عمري الكثيرة، عندما أجبتها بالإنكليزية: سوسيولوجي. لا أعرف لماذا فعلت ذلك، فأنا لا أطيق الإنكليزية ولا أجيدها، وفوق ذلك فإنني أحب المفردة العربية، أي علم الاجتماع، جدا. وأعتقد أن فيها وصفا دقيقا لهذا الحقل وغاياته.

لا أعرف لماذا، لكنني أخطأت هذا الخطأ. وبدأت الزوجة، ولحقها الزوج والبنات، بالتحدث معي بالإنكليزية. تخيلتهم أنهم كانوا في انتظار هذه السقطة، راقبوها وانتظروها بعناية، وضحكوا كما يضحك الأشرار في أفلام الرسوم المتحركة، ووجدوا ضحيتهم أخيرا. بعدها صار باستطاعة الزوجة أن تخبرني كل يومين عن معلومة تتعلق بحياتهم لعشرين سنة في أميركا.

المفردة الوحيدة التي استخدمتها بالخطأ، جعلتني في مأزق صعب لفترة طويلة، فلغتي الإنكليزية ليست عظيمة، وصرت بحاجة إلى تركيز في كل حوار بسيط عن تغيير حاوية النفايات من مكان لآخر، أو تعبئة الغاز وفواتير الكهرباء والإنترنت، وصرت أشعر لساني مربوطا ونطقي مضحكا. على العموم، فإن الضربة القاضية وقعت بعد ذلك جميعه.

لسوء الحظ، كان من سكنوا قبلي في البيت، دوبلوماسيين مصريين، هكذا تصفهم الزوجة، لكنني أظنهم موظفي سفارة عاديين. موقف الجماعة الراديكالي واضح جدا من خلال قنوات التلفزيون. ففوق أنهم رتبوا القنوات المصرية على القائمة، من 1 إلى 50، (هذه المرة الأولى التي أعرف فيها أن هناك 50 قناة مصرية)، فإنهم حذفوا كل قنوات الجزيرة. في المرتبة الثانية بعد القنوات المصرية، تجيء الميادين بإطلالة خاصة، تنسجم مع مهنية القنوات المصرية سابقة الذكر، وأخبارها الموثوقة، ولا تخلو قائمة الـ100 قناة الأولى من قنوات النظام السوري، التي ظننتها في الأول قنوات منوعات. 

المهم أنني قررت في يوم من الأيام إضافة قنوات الجزيرة، وبعض القنوات الأخرى، ولبى مالكا البيت الطلب فورا وبلطف، لكن المشكلة جاءت بعد ذلك كله: عندما أنهى التقني الذي أحضرته العائلة عمله، اكتشفت أن الزوجة طلبت منه على ما يبدو، إضافة قناة الجزيرة بالإنكليزية.

صار لزاما عليّ وقتها أن أعترف للعائلة برداءة لغتي الإنكليزية، حتى أنتهي من هذا الكابوس الطويل. قررت من دون تردد أن أرمي هذه المعلومة في وجه أم نضال في أول فرصة نلتقي فيها. (مرحبا أم نضال، لغتي الإنكليزية ضعيفة جدا. شكرا).  لكن اللقاء لم يأت على الطريقة التي توقعته فيها، فقد دقت علي أم نضال الباب في ساعة متأخرة من نفس اليوم، وطلبت مني مساعدتها في نقل أبي جميل، أي زوجها، إلى المستشفى. كانت حالته سيئة، وعرفت لاحقا أنه أصيب بجلطة في رجله. قالت لي أم نضال وهي تطلب مني المساعدة وتبكي أنني الذكر الوحيد في البيت، أي أنني الوحيد القادر على المساعدة، وعلى الحقيقة، فإن هذه جملة تكررها أم نضال دائما. ولا شك في أن هذه الجملة، تعطيني شعورا ذكوريا بالتفوق، وأشعر أن فيها اعترافا ناضجا، من سيدة في الخمسين أنهت كل معاركها مع الرجال. لكنني أشعر بأسى خاص في نفس الوقت حيال زوجها، ويخطر في بالي أحيانا، أن جل ما تعطيه الحياة للرجل في النصف الأول من عمره، ينقلب عليه. فمصادر قوته تتحول نفسها إلى مصادر ضعفه. أبو جميل لم يعد ذكرا على ما يبدو، على الأقل في عيون زوجته، وهذه مدعاة أسف كبير.

المهم، ذهبت مستعجلا بعد أن جهزت ابنتاه السيارة، من أجل المساعدة في حمله إليها. كان وزنه ثقيلا، مع أنه لا يبدو سمينا. هكذا أتخيل الرجال الأقوياء دائما، رجال نحيفون ووزنهم ثقيل، وتصورت أن عجزي عن حمل أبي جميل كان دليلا على قوته، لكنه كان على الأغلب دليلا على ضعفي لا أكثر. أثناء انفعال العائلة وطلب النجدة من الجيران، خطرت في بالي فكرة الحديث بالإنكليزية. قلت، في لحظات انفعال مثل هذه، فإن كل الأقنعة تسقط. يعود الناس في اللحظات العصيبة هذه إلى لغاتهم الأولى، إلى طرقهم البدائية في التعبير (صرت أتذكر من أي رواية لميلان كونديرا جئت بهذه الفكرة. الرجل يموت وأنا أعدد أسماء الروايات في ذهني. لو عرف كونديرا بما جرى، فسيشعر طبعا أن الكتابة جريمة).

 لم تنجح نظريتي كثيرا، إذ استمرت الأم وبناتها بالحديث بالإنكليزية، مع إدخال بعض الكلمات العربية المحلية جدا، أما الأب فكان ساكتا طول الوقت.

عندما حاولنا حمله مجددا صرخ من الألم. كانت رجله خدرة. سألته البنت الكبرى بالإنكليزية إذا كانت رجله خدرة. 

أجابها بالعربية، بصراخ وبصوت غليظ وبهيئة أب تقليدي جدا تظهر عليه للمرة الأولى: "بقولك خدرانة".

انحلت عقدة لساني فورا، وشعرتُ بانتصار خاص لم أشعر به منذ زمن.