كل هذا العطش

كل هذا العطش

04 يناير 2015
+ الخط -

أكتب متى ما دعتني حاجتي الفطرية إلى الكتابة، غير آبه بتنميق العبارات، ولا بزخرفة الجمل. إنما هي يدي تكتب، وانتهى السؤال. قل إنه فعل آلي يتحرك تلقائياً. أراقبه من بعيد، فلا أتدخل بالتنقيح ولا بالزيادة أو النقصان. مراهق يرسم السهام تخترق القلوب! بل قل إنها قربة مملوءة كلاماً، أثقبها فإذا هي تسيل بالكلمات. هكذا، بلا تعقيد ولا تزويق ولا سعي كاذب إلى الإبهار.
واليوم، وقد مضى عام يسرع الخطا، كأنما تلاحقه أغوال الأساطير، أتوقف لحظة لأتأمل. أوقف الزمن المتسارع، عنوة، عسى أظفر بنفسي هنيهات. أظفر بها هي المتفلتة من عقال الزمن، لا تدرك، أو لا تريد أن تدرك أن العظم قد وهن مني، واشتعل الرأس شيباً.
أهي رحلة دائرية مجنونة، تبدأ من الضعف وتعود إليه؟ ما أشبهني بدمية آلية فقدت ضابطها، فهي تدور في الفراغ، ردحاً من الزمن، ثم لا تلبث أن تهمد. تهمد حين أموت. ويكتب الناس "كان رحمه الله كاتباً.. وكان وكان". وما أنا، على وجه الحقيقة، لا المجاز، سوى رجل "ضيّع في الأوهام عمره"، كما غنّى، ذات زمن جميل، محمد عبد الوهاب.
أكتب هذه الخربشات في مقهى يطل على شارع محمد الخامس في مدينة وجدة (شرق)، وقد مر، تحت ناظري، "استعراض" ملون للطائفة العيساوية. حملتني الإيقاعات المحتفية بمولد سيدنا، محمد صلى الله عليه وسلم، إلى زمن أجمل وأنقى: زمن الزوايا، حين كانت تبشر الناس بالحب الذي يغسل القلوب من الأحقاد.
وأقرّع نفسي، وأنا أطل من شرفة العام الجديد، أتطلع إلى غدي الآتي، "ما أنت سوى هباء يتطاير في الهواء، إن شغلتك الشواغل عن إدراك كنه نفسك وسر وجودك ومعنى حياتك". ثم أنكفئ على ذاتي وأنسى. هذا كلام شديد الوطأة على النفوس الصواغر، شأن نفسي.
لا تحب النفس المستعلية، المجبولة على الأنانية المقيتة، حديث القلب عن حب الناس والسعي في خدمة الناس. وهو عين المعنى والجدوى والسعادة المنشودة، لو أدركت. وهو عين المروءة المتوارثة، جيلاً بعد جيل، المكبوتة المنسية، الملقاة على قارعة التاريخ. في زوايا كانت تدعو الناس إلى الحب وتحتضن الفقير وعابر السبيل.
خجولاً، أطل هذا العام. أستعير التشبيه الجميل من شاعرنا المغربي، عبد الرفيع الجواهري، حين أبدع في وصف القمر الأحمر يطل "خجولاً" على وادي أبي رقراق. خجول، عام الناس هذا، كأنما يستحي أن يطل عليهم في نواديهم، وهم ينتهبون دنيا زائلة! تصطرخ الغرائز، لا تأبه سوى بما يشبع نهمتها: هل من مزيد؟
وأنت يا كويتب آخر الزمان، تزعم أنك على شيء. لا والله حتى تقدم براهين الصدق. في قلبك، عطش. في روحك تعطش للحق والحب والجمال، كيف رويته بالسراب؟ شاه الوجه حتى آخر الدهر، إن كان الكلام تصفُّه يصنع منك مبدعاً! إنما هي دعوة الخير تبثها في الناس، تجعل منك شيئاً مذكوراً. وإلا فلست هناك، وإن أجهدت العقل وأتعبت الجسد.
مجتث أنا الكويتب من تربتي. نبتة سوء انقطع ريها من القلب القاحل الجاف. ريشة في مهب الريح، تتقاذفها الأهواء في الآفاق، تمر عليها الأعوام وهي تسافر، إلى غير وجهة، حتى تهمد، يوماً ما في عام ما، وتدفنها الأتربة تحت الأرض إلى الأبد.
ميلودراما رتيبة وحزينة؟ كلا، بل هي الحياة في تناقضاتها، حين تجمع التزهد والشغف بالحياة. وذلك شأن كل إنسان سوي، وإن أعوزته ملكة القول ليكتب ويقول.
سمها رحلة عطش كبرى، يقطعها إنسان العصر الكئيب. رحلة بحث عن قطرة ماء، تنقطع الأنفاس بحثاً عنها في هذا العالم المليء أنهاراً وبحاراً وسدوداً، كما عبر، ذات ثمانينات من القرن الماضي، كاتبنا المغربي، عبد الحق الزروالي، في مسرحيته المونودرامية "رحلة العطش".

 

 

602C815A-56D4-493E-A00F-C56E675B9A74
602C815A-56D4-493E-A00F-C56E675B9A74
سمير بنحطة (المغرب)
سمير بنحطة (المغرب)