قصة ولا مناظر

قصة ولا مناظر

11 يوليو 2019
+ الخط -
(إن السلاحَ جميعُ الناسِ تحمِلُهُ وليس كُلُ ذواتِ المِخلَبِ السَبِعُ)، قالها وهو يرى الشباب من حوله أمام جامعة عين شمس، ولم أفهم مغزى بيت أبي الطيب في هذا الوقت، ولا ارتباطه بهذا المكان؛ فسألته وأجابني وهو يشير بسبابته: أغلب هؤلاء ولا أقول جميعهم لم يفهموا، ولو فهموا ما رأيت عروض الأزياء في الحرم الجامعي، ولو فهموا ما وقعت الأعين على هذه الكتل من مساحيق التجميل!

ورأى على وجهي علامة استفهام كبيرة؛ فعمد إلى التبسيط قدر الإمكان، وفهمت منه أنه يفسِّر بيت المتنبي على نحوٍ خاص؛ فيرى أن السلاح عقلُ المرء، ومندوبه السامي اللسان! فإن رُزِقَ الشخص عقلًا راجحًا وفكرًا صالحًا، أدرك أن البهرج الخادع لن يفيده طويلًا، ما يدفعه لصقل عقله بالقراءة والتفكير، ويسجل اسمه في تاريخ المنتجين؛ منتجي الفكر والعلم والأدب والفن.

فريق آخر يوقن بوهن عقله وسقم لسانه؛ فيعمد للمبالغة في الزينة الخارجية المؤقتة، وفق قانون التعويض، وللأسف هذا تعويض متغير سريع الزوال.

وليضفي على حديثه قدرًا من المصداقية قال: أدلك على رجلٍ ميَّز بين الأمرين؛ القشرة واللباب، الشكل والمضمون! كان قصيرًا بدينًا دميمًا، بارز العينين، كبير الأنف في قبح، واسع الفم، بالي الثياب، هذا منظره وفيه ما يزهِّدك في التقرُّب إليه، لكنك تضرب الذكر صفحًا عن هيئته بمجرد أن يتكلم؛ إنه شيخ فلاسفة الإغريق، سقراط! ومنه إلى رابلييه وموليير وفولتير ومعاصرين - لولا حساسيتهم لذكرت أسماءهم - لم يُرزقوا وسامة الشكل، لكنك تنقاد إليهم بمجرد أن تسمعهم أو تقرأ لهم، وأحيلك إلى إبراهيم عبد القادر المازني كأحد هؤلاء.


وبعد وقفة ليست بالقصيرة قال: في بعض الأيام، نظر فيثاغورس إلى رجل عليه ثيابٌ فاخرة، مثل عددٍ عديد ممن تراهم الآن، فلما تكلم لحن في كلامه، وأمسك كوعي الأيسر وضغطه ضغطة خفيفة قائلًا "وأرجوك لا تفهم من كلمة لحن هذه أنه لحن في اللغة؛ فإن هذا اليوم هو القاعدة، وضبط اللسان استثناء"، وتنهّد الرجل مواصلًا قصة فيثاغورس: لقد باغته فيثاغورس بقوله (إما أن تتكلم بكلامٍ يشبه لباسك، وإما أن تلبس لباسًا يشبه كلامك).

لم يُخدع فيثاغورس بالتنورة الباريسية والعطور الإسبانية والساعة الروليكس، إنما ركز على المضمون والفكر ونتاج العقل، وترى أبا الطيب يدندن على الوتر نفسه، ومن ذلك قوله (ليس الجمالُ لوجهٍ صاح مارِنُه/ أنفُ العزيزِ بقطعِ العزِّ يُجْتَدَعُ)، وهذا ديدن العقلاء في أرض الله. ذكرت لك سقراط وفيثاغورس، وإن شئت حدثتك عن ضمرة بن ضمرة في بلاط النعمان بن المنذر، ولكنني سأقفز بك إلى عصورٍ أقرب، ولن أحدثك عن الأحنف بن قيس؛ فالكلام عن هذا الرجل يطول وتطرب له النفوس، ولربما حدثتك عنه قريبًا.

في العصر الأموي
في حَلْقَةٍ من حِلق مسجد البصرة، انضمَّ إليهم رجل أحمر الوجه دميم الخلق - أو على هذه الشاكلة رأوه - رثّ الهيئة؛ فتباعدوا عنه وتململوا منه، وبعد هنيهة تحدث، فإذا به يرتقي السحاب ويميز القشر عن اللباب؛ فخلب عقولهم وجذب أسماعهم وأبصارهم، وأدركوا أنه فطِن إلى تبرمهم منه قبل قليل؛ فقالوا يعتذرون: الذنب مقسومٌ بيننا وبينك مناصفةً، أتيتنا في زي مسكين تكلِّمنا كلام الملوك. وبعد أيام، لم يدهشوا حين سمعوا أن عمر بن عبد العزيز أصدر مرسومًا بتعيينه قاضيًا للبصرة؛ إنه إياس بن معاوية!

وفي العصر العباسي
قال الأصمعي: رأيت بالبصرةِ شيخًا له منظرٌ حسن، وعليه ثيابٌ فاخرة، وحوله حاشيةٌ وهَرْجُ، وعنده دخلٌ وخَرْجُ؛ فأردت أن أختبر عقله، فسلمتُ عليه وقلت له: ما كُنيةُ سيدِنا؟ فقال: أبو عبد الرحمن الرحيم مالك يوم الدين. قال الأصمعي: فضحكتُ منه وعلمت قلة عقله وكثرة جهله.

وكان أبو زيد أحمد بن سهل البلخي يلقَّب بـ "جاحظ خراسان"، وكان أبو الفضل بن العميد يطرب حين ينادى "الجاحظ الثاني"، وينازعه اللقب نفسه أبو حيان التوحيدي، ثم لُقِّب محمود بن عزيز بالجاحظ الثاني، وكثيرون غيرهم تمنوا أن يُنسبوا للمدرسة الجاحظية بأي ثمن، وهذا يؤكد أن المضمون أبقى تأثيرًا من الشكل، وأن الريش الجميل لا يشفع ولا ينفع وحده بحال. أما عن الجاحظ الأول؛ ليتعين علينا أن نعرِّج على ذكر شيء من أخباره.

والجاحظ الأول، أبو عثمان عمرو بن بحر بن محجوب الكناني، كان قصير القامة، صغير الرأس، دقيق العنق، صغير الأذنين أسود اللون، جاحظ العينين، مشوَّه الخلقة، لُقِّب بالجاحظ أو الحدقي لبروز عينيه. طلبه الخليفة المتوكل (أول خلفاء العصر العباسي الثاني) لتأديب ولده؛ فلما رآه صرفه وأعطاه عشرة آلاف درهم.

حكى عن نفسه -أي الجاحظ- قال: "ما أخجلني قط إلا امرأة، أخذت بيدي إلى نجار، وقالت: مثل هذا! ومضت؛ فعجبت وسألت النجار عن قولها؛ فقال: أتت إليَّ وقالت أن أصنع لها صورة تخوِّف بها أولادها، وأتت بك مثالًا". ودخل عليه يومًا غلام؛ فرآه يجتهد في الدعاء فقال: ما بك يا مولاي؟ قال: وجدت نفسي أني صرت هزوءًا للناس؛ فأنا أدعو الله أن يصلح ما بي من العيوب. قال الغلام: أيسر عليه أن يصنعك جديدًا.

في ذم الجاحظ، يقول أحمد بن سلامة الكتبي (لو يُمسخُ الخنزيرُ مسخًا ثانيًا ما كان دونَ قبحِ الجاحظِ/ رجلٌ ينوبُ عن الجحيمِ بوجههِ وهو القذى في كلِّ طرفٍ لاحِظِ)، ومع ذلك يطرب أهل الأدب والحكمة وفنون القول للجلوس بين يدي الجاحظ، ويناقشون رسالات الماجستير والدكتوراه في نتاج قلمه وفكره، ولم يمنعهم من ذلك قبح مظهره؛ فالأمر يتعلق بإبداع الرجل لا بشكله وهيئته.

وكان بشار بن برد أعمى، مشوه الوجه من أثر جدري أصابه، وضرب به المثل لقبحه، وفيه يقول "مخلد بن علي السلامي" في هجائه ابن المنير (رأيتك لا تجلب الود إلا إذا كان هو من عصب وجلد/ أراني الله وجهك جاحظيًا وعينيك عين بشار بن برد). أتراك لا تعلم أن بشار على قبح هيئته ومجونه شيخ المولدين؟! وأستاذ المبتكرين في شعر العباسيين! فالعبرة لم تكن ولن تكون عند أصحاب الحِجا - بالشكل وإنما بالمضمون.

وفي العصر العباسي -أيضًا- عاش أبو شراعة الشاعر، وكان قبيح الوجه جدًا، لم أقابله مرةً واحدة لكني حُدِّثتُ عنه. نظر يومًا في المرآة فأطال، ثم قال: الحمد لله الذي لا يُحمد على الشر غيره! ولك أن تتخيل الأمن النفسي والتصالح الذاتي لهذا الرجل، ولا أدري لو أمكنه أن يدخل عيادة طبيب تجميل؛ فبأي شيءٍ من مظهره كان يبدأ.

في العصر الحديث
لم يكن تولستوي على قدر من جمال المظهر، كان يدرك ذلك ويعيش صراعًا داخليًا؛ فمع أنه صاحب القلم الرشيق والفكر الأنيق، لكنه ينظر في المرآة فينقلب حزينًا بعض الشيء. ربما عزف عن الزواج حتى سن الرابعة والثلاثين لهذا السبب، وأراد أن يؤطر ملامح وجهه بإطار فخم من الشهرة والنجاح الأدبي، علَّه يقلل من بشاعة ملامح وجهه!

وصفه بعض مؤرخيه فقال: "كان وجهه دميمًا كوجه القرد؛ فعيناه غائرتان وجبينه منخفض، وشفتاه غليظتان، وأنفه ضخم يشبه البصلة، وأذناه غاية في الضخامة"، وفي نهاية وصف تولستوي يقول المؤرخ: "كان له عقل بارع الجمال في جسم بالغ الدمامة".

في صدر شبابه، فكر صاحب "الحرب والسلام" ومبدع "آنا كارنينا" في الانتحار، ولم ينتشله من التنفيذ إلا النجاح الأدبي المبكر والشهرة التي حققها، كما أن الثروة التي ورثها عن عائلته كانت تخفف من حدة القبح؛ فالناس ترى للغنى بهاءً وجلالًا مهما كانت ملامحه بعيدة عن جمال الشكل.

وسامة العقل تفوق بمراحل الوجه الجميل، ولهذا السبب وقعت ابنة السبعة عشر ربيعًا، صوفيا، الأرستقراطية المثقفة في غرام تولستوي؛ فتزوجها في عمر الرابعة والثلاثين، وأنجبت منه أربعة عشر طفلًا مات منهم ثلاثة، وأجهضت غير مرة، واستمرت العلاقة بينهما ممتازة حوالي أربعين سنة، قبل أن تختلف رؤيتهما حول العالم والحياة.

ومن أم الدنيا
كان يحيى حقي يدرس الحقوق، وعلى قيد ذراع منه يجلس شاب يختلف عن أقرانه من الطلبة. يرتدي هذا الغريب طربوشا قصيرا جدا، أسنانه غليظة، عيناه جاحظتان قليلا، يجلس معتمدا ذقنه على قبضة يده، نظراته شاردة، ذهنه سارح، بملابس نظيفة وقلما يكلّم أحدا من زملائه.

كان حقي يقول في نفسه: "هذا الشاب -ولا ريب- أحد أبناء المرفهين، يأتي للمدرسة لا يهمه أي شيء، سواء أنجح أم لم ينجح، يأتي للمدرسة للترويح عن النفس فحسب". كان حقي يجد شيئا ما يجذبه لهذا الغريب، ومع ذلك لم يحاول التقرُّب منه أو التعرُّف عليه.. كان اسم هذا الغريب توفيق الحكيم. لم يذكر مرة أنه كاتب مسرحيات، وقد نشر عددا من مسرحياته إبان فترة دراسته، آثر أن يكون يعيش حياة هادئة، وهذا ما أكسبه سحرا خاصا وتواضعا بين الناس.

يقول حقي: "لقد خدعني توفيق الحكيم عن نفسه بصمته وحيائه وعزوفه عن الناس وتهيبه للغرباء". يذكر أديب نوبل أن توفيق الحكيم أطلعه يوما على مجلة أجنبية، بها صورة للسادات في بيته وأمامه تورتة ضخمة، والسيدة حرمه تصب له الشاي، وعلَّق الحكيم على الصورة قائلًا: هل هذا المنظر لقائد سوف يحارب؟!

لقد غلَّب الحكيم الشكل على المضمون، ومثله فعل ثروت أباظة في حكمه على السادات، كما غلَّب كامل الشناوي الشكل على المضمون في حكمه على نجيب محفوظ، ولمَّا أهداه محفوظ كتابًا لم يقرأه، وكذلك غلَّب المازني الشكل على المضمون، ورفض قراءة كتابي مي زيادة وقد أهدتهما له. حتى المثقف يقع في فخ تغليب الشكل على المضمون، وهذه إشكالية تتطلب كثيرًا من التجرُّد والموضوعية.

وفي حديثه عن الشكل والمضمون، يقول حقي: "ومن أساتذتي في مدرسة الحقوق الأستاذ المرحوم أحمد نجيب الهلالي.. دخل علينا الفصل فحسبناه لنحافته وصغر سنه تلميذًا مثلنا، إن زاد علينا شيئا فبهذه النظارة السميكة التي تدل على إفناء بصره في القراءة.. فما كاد يتكلم حتى انعقدت ألسنتنا وفُغرت أفواهنا إعجابا به، لقد هدم في درسه الأول كل ما بين أيدينا من كتب قديمة بالية بكلامٍ جديدٍ تشع منه الحياة".

لا تجعلن دليل المرءِ صورته، وقبل أن تحكم على شخص ما، تأكد أنك تعزل القصة عن المناظر؛ فالقصة تطول والمناظر برقٌ خلب، لا قيمة لها مع كثرة الصور وتشابهها؛ فأنت تقف طويلًا مع قصة إياس بن معاوية والجاحظ وتولستوي، وإن لم تقو على النظر في ألبوم صورهم؛ فاربع على نفسك ولا تخادعها، ولا تجعلن دليل المرء صورته، وصدق أبو الطيب (وفي التَّجَارِبِ بعد الغيِّ ما يَزَعُ).

دلالات