فيليب مانسيل: القسطنطينية في سيرة سلاطينها

فيليب مانسيل: القسطنطينية في سيرة سلاطينها

05 سبتمبر 2015
(القسطنطينية في رسم يعود إلى 1882)
+ الخط -

تركت السلالات العائلية الحاكمة، عبر التاريخ، أثراً كبيراً في المدن التي حكمتها، لم يكن أقل أهميّةً من تأثير القوميّة والجغرافيا فيها. ولعل القسطنطينية أبرز تلك المدن التي احتضنت عشرات القوميات واللغات، والتي وضع مؤرّخ البلاط والمدن، البريطاني فيليب مانسيل عنها كتابه "القسطنطينية: المدينة التي اشتهاها العالم"، وقد ترجمه مؤخّراً مصطفى محمد قاسم، وصدر عن السلسلة الكويتية "عالم المعرفة".

تتبّع المؤلف التغييرات التي حدثت للقسطنطينية، منذ قدوم محمد الفاتح عام 1453، في طموحٍ عنيد خالف فيه والده مراد الثاني، وحتى خروج السلطان عبد المجيد منفياً عام 1924.

يركّز المؤلف في الجزء الأول من كتابه على مرحلة أطلق عليها الـ "كوزموبوليتانية"، والتي شهدت تنوعاً في الأعراق والديانات واللغات، أكّدها وسعى إليها محمد الفاتح، في تشابه مع تنوع وتعدد صفاته كرجلٍ "وحشيّ ووديع، قاسٍ ومتسامح، بنى المدارس بنفس الحماسة التي عذّب بها وارتكب المذابح".

شكّل هذا التعدّد عماد قوة القسطنطينية بين الحواضر التي سادت منذ القرن السادس عشر وحتى الثامن عشر. إنه أيضاً التعدّد نفسه الذي تسبب بمقتل الفاتح على يد طبيبه الفارسيّ "اللاري"، مدفوعاً بمؤامرة من ابنه بايزيد الثاني، والذي أورث الحكم لابنه سليم الأول.

سعى هذا، خلافاً لجدهِ محمد الفاتح، إلى أسلمة المدينة. هنا، يرصد مانسيل محاولة تحويل الحاكم الجديد أعرقَ الكنائس إلى مساجد، ما أدّى إلى سلسلة توترات أفضت إلى تدخّل القيصر الروسيّ ألكسيس والد بيتر الأكبر، وكان يعتبر نفسه حامياً لآمال الأرثوذوكس.

استبدل سليم الأول الرسومات الإيروتيكية على جدران القصور الداخلية والتماثيل في الساحات العامة بالزخرفة، معتمداً على أسلوب الإمبراطورية العثمانية؛ حجارة رمادية مقتطعة من الشواطئ الجنوبية لبحر مرمرة، مؤكداً بذلك العبارة الشائعة في وصف هندسة المدينة من أن "التقاليد كانت المهندس المعماري الأبرز بين العهود" التي مرّت عليها.

لا يغفل المؤلف التمييز بين صفات المدينة الرسميّة القائمة بالأبنيّة والمعاملات الرسميّة وأوصاف الحاكم الذي صار يُدعى أمير المؤمنين وظل الله في الأرض، وبين صفات الشعب وعاداته، والذي بقي وفيّاً في معتقده القديم للبذخ والثراء، إذ صالحت فئة كبيرة من الشعب بين السعي إلى الثروة من جهةٍ وإلى الدين من جهة أخرى، حيث زرعت الكروم المقامة على أراضٍ وقفٍ إسلاميّة بالعنب الذي خُصّص لاستخلاص الخمر.

في بدايات القرن السابع عشر اكتسبت المدينة طابع التعصّب الديني، خصوصاً عند المسيحيين الذين صار ارتباطهم بالقوى المسيحية في الخارج أكثر، ليتزامن ذلك كلّه مع بداية صعود النخب السياسية كندٍّ للسلطان؛ إذ سيطر الأثرياء وعائلات النفوذ على مقاليد الحكم في ظل وجود سلاطين ضعفاء، مثل السلطان عثمان الثاني ابن السابعة عشرة.

يورد المؤلف أن بداية نهاية القسطنطينية والدولة العثمانية كانت من هنا، من الباب العالي مقر النخب، في نديّة واضحة للقصر، إضافة إلى بدء ظهور إحدى أكثر العائلات نفوذاً وتمكناً، وهي عائلة كوبرولو والتي انتصرت لتاريخ الثراء والمتعة الذي طبع الحياة في المدينة.

في فصول: "القصر" و"الحمّامات" و"مدينة الذهب" و"ثائر المتعة"، يركّز المؤلف جهده للتمحيص في عادات سكان القسطنطينية، ومظاهر الثراء والأبّهة والملذات لدى العامة والنخب، ويرجع وهن المدينة إلى استنزاف الملذات للروح القتالية للإمبراطورية.

أما ما تبقى من الكتاب، فيفرده المؤلف لدسائس نساء القصر، وتفاصيل قانون قتل الأخوة في العائلة الحاكمة، وتأثير البعثات الدبلوماسية والسفارات والأحلاف التجارية في بداية أفول إمبراطوريةٍ اشتهاها العالم.

المساهمون