فيلمان إيرانيان: صُور سينمائية وموسيقى ساحرة وبيئات قاسية

فيلمان إيرانيان: صُور سينمائية وموسيقى ساحرة وبيئات قاسية

29 يوليو 2019
"مُحبة" لياسر طالبي: وحشة عيش (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
مناطق جبلية مغمورة بالثلوج. بيئات جغرافية ساحرة. انسجام مبهر بينها وبين الذين يعيشيون فيها. نقاء سريرةِ بشر. هشاشة سلطة. هيمنة الإنسانيّ المقتصد في مطالبه. عجائز متوحّدات ومتطامنات مع مصائرهنّ وعزلتهنّ. 

هذه مشتركات بين فيلمين إيرانيين، أحدهما روائي بعنوان "امضِ" والآخر وثائقي بعنوان "مُحِبة"، تركا العاصمة والمدن الكبيرة، وذهبا إلى بيئاتٍ هادئة، بعيدًا عن أمكنة مكتظّة بالبشر والأطماع.

روائيّ أمير مشهدي عباس، المُصَنّف "عائليًا"، عذب السرد. أعطى البطولة للصبيّ غلام ميرزا (محمد أمين أحمدي)، تاركًا مساحة خاصة للخالة سنامبار (سُوَريا غاسيمي)، العجوز الغريبة، الكردية التي جاءت مع زوجها، قبل زمن طويل، إلى قريته الجبلية. والمساحة تلك تتيح إمكانية سرد حكايتها الحزينة، في سياق نصٍ أُريد له أن يشعّ فرحًا ويفيض شاعرية. أما فوزية خورشيدي، فشغلت المساحة الكبرى في وثائقيّ ياسر طالبي، لكونها بطلته المطلقة. إليها، ذهب المخرج لتسجيل تفاصيل حياتها، وحيدةً في جبال البورز العالية. علاقتها بأبقارها خاصة، لا تشبه العلاقات التقليدية بين مُزارع ومواشيه. تُحيل فضل وجودها إليها. تقديرًا لها، ظلّت ترعاها كأنّها أولادها.

وحشة عيش العجائز مؤلمة، يُسرّبها كاتبا السيناريو إلى نصّيهما بسلاسة. غالبًا، تأتي في سياق أحداثٍ وحوارات، تحكي قصص حياتهنّ، وكيف وصلن إلى تلك البقاع الشمالية، المُشترطة ملاءمَةً بشرية صعبة، من دونها يضيع التناغم اللازم بين أطرافها. بعد موت زوجها، امتلكت الكردية الغريبة ما يجعل الآخر يتقبّلها: خبرتها الطبيّة الفطرية. بادلت وجودها بمعارفها، فقبلها الناس بينهم. كان عليها إعالة نفسها من دون مساعدة أحد. حتى بلوغها 90 عامًا، لم تطلب عونًا. مجيء الصبي غلام ميرزا إليها، عارضًا خدماته، تمّ في سياق منفعيّ. رغم ذلك، فتح مجازًا له ليتعرّف من خلاله إلى كائنٍ، ظلّ يجهله ولا يعبأ بوجوده، إلى أن برزت الحاجة إليه. فمن دونها، لما حصل على جائزة إدارة مدرسة القرية، الخاصة بمن يُوفّق في تعليم أحد الأُميّين فيها. كانت هي الأمّية الوحيدة. بتعليمها، حصل الصبي على مبلغ مَكّنه من شراء درّاجة هوائية جديدة.

وحدة فوزيّة خورشيدي، في جبال منطقة سِمنان، نتاج ظروف وأقدار. زَوّجها أهلها من مربّي مواش وهي طفلة. أنجبت 4 فتيات، قبل أن ترزق بولد. أرسلها زوجها للعمل في المراعي البعيدة. اعتنت بالأبقار. ظلّت وحيدة معها في عراء المرتفعات الباردة. بعد إنجابها ولدًا تغيَّر حالها قليلًا. عاد زوجها للعيش معها. لكن وضعها لم يتحسّن كثيرًا. ظلّت تنجب وترعى أطفالها الـ11. الزوج، الذي يكبرها بـ30 عامًا توفّي. الأولاد تركوها، وهاجروا إلى المدن، فظلّت وحيدة مع أبقارها. مُتَكيّفة مع عيش مضنٍ، لا راحة فيه إلا للضمير، ولا طمأنة إلا للروح. الجسد ما زال يستجيب لرغبة قوية في البقاء من أجل أبقارها، التي لا تريد تركها "يتيمةً" بعدها.

هذه توصيفات تأتي على لسانها وهي تتحرّك أمام الكاميرا. تسرد تفاصيل حياتها بجُمَلٍ متقطعة، وياسر طالبي يُصوّرها. الإدهاش منبثقٌ من جودة اشتغاله الإخراجيّ، ومن تصويره. اللقطات المقرّبة، ونقاء الألوان المتناغمة مع بيئة طافحة بها، تُحيل المشاهد على لوحات "طبيعية". المواشي والعجوز وتفاصيل الطبيعة تُكوِّن كلّها معًا عالمًا سحريًا، لا نراه في المدن المكفهرة الألوان، والمزدحمة بالبشر ومشاكلهم.

بساطة العيش في الجبال، والجَهل بقيمة الأشياء المادّية، نِعَمٌ لا يعرفها إلا المُستنكفون عن البحث عنها. إلى المدن الإيرانية القصيّة، وصلت عدوى المال، لكنها ما زالت ضعيفة، لا تُميت المصابين بها. المُسنّات لم يَعرنَ أهمية للمال. اكتفين بزهد عيش، وإشباع حدٍ أدنى من مستلزماته. حتى حين يتوفر لديهنّ المال، يتنازلن عنه لغيرهنّ.

رغم مقاومتها فكرة بيع أبقارها، اضطرّت فيروزة إلى بيع إحداها لمُساعدة إحدى بناتها في المدينة. الخالة الغريبة، في روائي أمير مشهدي عباس، قبلت بتأدية دور الأمّية لتُحقِّق للصبي حلمه في الحصول على دراجة هوائية، وتعوّض عجز والده الفقير عن شرائها له. كرمهما وطيبتهما يُحيلان على سؤال الأنوثة، وحنيّة نساء يقاومن فكرة الموت من أجل آخرين. منفتحات على إعطاء كلّ ما يملكن. قبولهن بالعيش في وحدة متعبة تشترط توافقًا جسديًا وتأهيلاً عقليًا، لمجاراة طبيعة قاسية لا ترحم من لا يعرف قوانينها. تشترط أيضًا توافقًا قويًا مع متانة دواخلهنّ. دافعهنّ إلى بقاء غريزي مشفوع بقبول مؤلم بأقدار قاسية، من دون إعلان غضبهنّ عليها.

في "امضِ" و"مُحِبة" تبدو السلطات هشّة، وفاقدة قوّتها. إدارة المدرسة، المتشدّدة في شروط قبولها المتسابق لنيل جائزة "معلم" محو أمّية، تضعف كثيرًا أمام إرادة أطفال، غاياتهم البسيطة لا تهزّ مكانتهم، ولا تسلب قيمتهم الاعتبارية. بالنسبة إلى حرّاس الغابات، فإنّ المكوث الطويل لفيروزة في الغابة، المتعارض مع قوانين حماية البيئة، لا يشكّل خطرًا حقيقيًا عليها. في الأحوال كافة، هم عاجزون أمام إصرار امرأة، قرنت وجودها في الغابة بوجود أبقارها معها. "العجز" لا يؤشّر إلى طبيعة سلطة المركز، لكنّه يشير إلى ملاءمة مع "خروقات" لا تشكّل تهديدًا لهيبتها.

الأكثر حضورًا وسلطة في النصّين السينمائيّين هو الحزن. دواخل المُسنّات مشحونة بحزنٍ ومرارة على فراق: الكردية على زوجها، الذي تركت أهلها من أجله، لحبّها الكبير له، وقبلت الرحيل معه إلى قريته. بموته المبكر، تركها وحيدة، لا تقوى على مغادرة المكان الذي عاشت فيه أحلى سنوات عمرها. حزن المرأة الأخرى ومرارتها متأتيان من إهمال أولادها لها، وتركها وحيدة من دون سؤال عنها. مكالماتها التلفونية تكون غالبًا من دون جوابٍ من الطرف الثاني، فتكتفي بآلة تسجيل الرسائل الصوتية عليها، لتحكي أوجاعها وزعلها على هجران وقلة امتنان.

في الفيلمين، التعابير الحزينة والمؤلمة كلّها مصحوبة بموسيقى شرقية الإيقاع وإيرانية الروح، تزيد حدّتها وقوة تعبيرها (الموسيقى التصويرية في "امضِ" لعبد عطشاني، وفي "مُحبة" لأكبر راستغار).

في المتن الحكائيّ لهما، ينتبه الفيلمان إلى الغيّرية. تثبت الكتابة وجود آخرين غير مسلمين يعيشون في بقاع بعيدة، ربما لم تلتفت إليهم السينما الإيرانية كثيرًا. تقديمهم، في وثائقيّ مذهل ونص روائي عائليّ رائع، كأرواح عذبة منسجمة مع محيطها ومتوافقة معه إنسانيًا، يسهّل تمريرها وقبولها، بغض النظر عن التبجّح بفكرة "حقّ الآخر في الوجود". كما أنّهما يتشاركان في اشتغال سينمائي مبهر، ينتمي إلى المدرسة الإيرانية التقليدية، بفارق استثمارهما الجيّد للتقنيات الحديثة.

تصوير الروائي (هاشم مرادي) حيوي. حركة الكاميرا ديناميكية، متنقّلة بين جغرافيات وبيئات مختلفة التضاريس: جبال ووديان، ثلوج وليال عاصفة ونهارات مشمسة. الكاميرا لم تتخلَّ عن ترتيب فتحات عدساتها معها. هذا نجده بشكل أفضل في الوثائقيّ، فبطلته تعمل في أكثر من مساحة جغرافية، وبتعابير حسّية متأتية من انفعالاتها العفوية، التي تتطلّب مصاحبة كاميرا متنبّهة لها، كي لا تُفوِّت على نفسها فرصة التقاط الثمين منها. تندهش الكاميرا نفسها من طلب العجوز البقاء معها وحدها. تأمر المخرج ـ المصوّر بالابتعاد، وغلق الباب خلفه، لأنها تريد كتابة وصيتها بالصورة. أوصت ولدها الكبير بأبقارها، وبعدم السماح لنفسه ببيعها بعد موتها. فتلك الأبقار أبقتها على قيد الحياة طيلة فترة غيابهم وبعدهم عنها. استجابت الكاميرا لطلبها، وبعد انتهاء فيروزة من كتابة وداعها الأخير، أغلقت عدستها.

دلالات

المساهمون