عن هروب الاستثمار الأجنبي

عن هروب الاستثمار الأجنبي

24 يونيو 2020
البلاد العربية تمتلىء بالعمالة الماهرة (فرانس برس)
+ الخط -
ما زال العالم يتحسس خطواته بعد إعادة فتح الاقتصاد في أغلب دول العالم، وإن بدرجات مختلفة، مع وجود صعوبات واضحة في حصر خسائر الوباء الاقتصادية، وذلك بخلاف الخسائر البشرية، حيث تسبب الوباء حتى الآن في وفاة أكثر من 470 ألف شخص حول العالم، وإصابة ما يقرب من 9 ملايين غيرهم، ولا توجد أي بشائر عن قرب التوصل إلى مصل يقي من الإصابة به قبل نهاية العام.

وظهر الوباء فجأة في العالم، فكان بمثابة ضوء أحمر ظهر في إشارة مرور على طريق انتعاش الاقتصاد العالمي السريع، لتضطر كافة المركبات إلى التوقف بدون سابق إنذار. ومع بدء الإعلان عن توقعات أرقام حالات الإصابة والوفاة في الولايات المتحدة، ومن ثم اتخاذ قرارات "الإغلاق الكبير" الهادفة للحد من انتشار الفيروس، بدأ تراجع الإيرادات والأرباح لدى الشركات الأميركية يدق ناقوس الخطر، الأمر الذي استدعى تدخلاً عاجلاً من بنك الاحتياط الفيدرالي ووزارة الخزانة، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من اقتصاد البلاد ومنع انهياره التام.

وكان لافتاً التأثير الضخم على الاقتصادات الكبرى مقارنة بما حدث في الاقتصادات الناشئة والنامية، وتحديداً في ما يخص إيرادات الشركات، واعتبر البعض أن البلدان الكبرى كانت أسرع وأشمل وأحكم في إغلاق اقتصاداتها، بينما كان هناك نوع من التسامح في الاقتصادات الأخرى، سمح به غياب الشفافية في ما يخص أعداد المصابين وحالات الوفاة المرتبطة بالوباء. لكن مع إعادة الفتح، كانت هناك توقعات واضحة بالعديد من الأرقام السيئة، التي لن تنجو منها هذه المرة الاقتصادات الأصغر.

وبعد أن تسبب الوباء في حدوث أكبر ركود عالمي منذ ما يقرب من قرنٍ من الزمان، وكانت له تأثيرات سلبية ضخمة على صحة وعمل وثروة ملايين الأفراد حول العالم، توقعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD ألا يعود الاقتصاد العالمي إلى مستويات الربع الأخير من العام الماضي قبل مرور عامين على أقل تقدير. وقالت المنظمة إنه في حالة السيطرة على انتشار الوباء، وعدم ظهور موجة ثانية من الإصابات، سيتراجع الاقتصاد العالمي بنسبة 6% خلال العام الحالي.
أما في حالة حدوث موجة ثانية من تزايد الإصابات، فربما يؤدي ذلك إلى إغلاق جديد لأغلب الأنشطة الاقتصادية حول العالم، وهو ما سيؤدي إلى تراجع النمو الاقتصادي العالمي بنسبة تتجاوز 7.5%، وارتفاع معدل البطالة لأكثر من 10%، مع نهاية العام الحالي.

واقع الأمر يشير إلى أن الدول النامية لن تكون بمعزل عن التأثيرات السلبية للجائحة في المستقبل القريب، خاصة وهي تعتمد بصورة كبيرة في ما ترجوه من طفرات اقتصادية على الاستثمارات الأجنبية الواردة من الاقتصادات الكبرى. وقبل أيام، نشرت وكالة رويترز تقريراً أشارت فيه إلى وجود توقعات بتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر في العالم خلال العام الحالي بنسبة 40%، بسبب جائحة الفيروس، مؤكدةً أن الدول النامية ستكون الأشد معاناة من تداعيات هذا التراجع.

وقالت رويترز إن تقديرات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) تشير إلى أن الاستثمار الأجنبي المباشر سيقل خلال العام الحالي عن تريليون دولار، وذلك لأول مرة منذ عام 2005، مقابل 1.54 تريليون دولار تم تسجيلها خلال العام الماضي، وأن هذا الرقم سيتراجع خلال العام المقبل 2021 بنسبة تتراوح بين 5% - 10%.

وأكد التقرير أن أكبر 5000 شركة متعددة الجنسيات، والتي تحتفظ بالنصيب الأكبر من الاستثمار الأجنبي المباشر حول العالم، خفضت أرباحها المتوقعة للعام الحالي بنسبة تقترب من 40%، وأن ذلك واكبه تراجع صفقات الاستحواذ والاندماج العابرة للحدود بنسبة تقترب من 50%.

ولما كانت أغلب الاقتصادات النامية تعتمد في كثير من الأحيان على الاستثمارات الأجنبية في التصنيع واستخراج المواد الخام، وترتبط فترات غياب تلك الاستثمارات بصورة واضحة بحدوث عجز كبير في موازين مدفوعاتها، الأمر الذي يضع عملاتها المحلية تحت ضغوط كبيرة، ويضطر تلك الدول في كثير من الأحيان إلى اللجوء إلى الاستدانة من الخارج، يبدو أن تلك الاقتصادات ستتعرض في المستقبل القريب لظروف اقتصادية سيئة، مع توقعات انصراف تلك الاستثمارات عنها. 
ورغم وجود حساسية في بعض الأحيان تجاه هذه النوعية من الاستثمارات، خاصة تلك التي تسارع بالانسحاب مع تعرض البلد المستهدف لأقل قدر من الاضطرابات الاقتصادية، لا يمكن لأي تحليل محايد أن ينكر الدور الإيجابي الذي تلعبه تلك الاستثمارات في تحسين وضع ميزان المدفوعات، ومن ثم تقوية العملات المحلية، كما نقل التكنولوجيا الحديثة والخبرات الموجودة في الاقتصادات المتقدمة. وعلى الرغم من ذلك، فلا ينبغي التعامل مع تراجع تلك الاستثمارات على أنه نهاية العالم. 

النظام العالمي الجديد، فيما بعد تجاوز مرحلة كوفيد-19، يحمل في طياته الكثير من التحديات، ولكن هذه التحديات لا تأتي بدون فرص، يمكن لمن يحسن استغلالها اختصار آلاف الخطوات في الطريق للصعود إلى مسرح الاقتصاد العالمي ولعب دور فاعل فيه، وليست ظروف تراجع الاستثمار الأجنبي إلا واحداً من تلك التحديات التي تأتي بفرصتها.

تراجع الاستثمار الأجنبي هو دعوة صريحة لدولنا العربية لاستغلال رؤوس الأموال المتاحة فيها لخلق شراكة بين القطاع الخاص والحكومات التي اعتادت على احتكار أغلب فرص الاستثمار خلال السنوات الأخيرة. 
بلادنا تمتلئ بالعمالة الماهرة، الراغبة في الحصول على الفرصة، وأغلبها من الشباب الذكي، الذي نراه ينافس في أكثر بلدان العالم تقدماً، بمجرد حصوله على التدريب اللازم. ومع حجم السوق الموجود في البلدان العربية، لا تحتاج الأموال التي اعتادت على الهرب للخارج إلا إلى تشريعات تطمئنها، وربع التسهيلات التي يتم منحها للاستثمارات الأجنبية، وستكون قادرة في أقرب وقت على تحقيق نجاحات أكثر مما يحققه أي استثمار أجنبي، سواء بخلق فرص العمل، أو تحسين موازين المدفوعات، أو تحقيق معدلات النمو المرتفعة، وما يصاحبها من ارتفاع دخول المواطنين.
فليذهب الاستثمار الأجنبي للجحيم، وعاشت الرأسمالية الوطنية!