عبد المجيد الشرفي: آن الأوان لإعادة النظر في المسلمات

عبد المجيد الشرفي: آن الأوان لإعادة النظر في المسلمات

09 مارس 2015
+ الخط -
يعدّ الدكتور عبد المجيد الشرفي، العميد السابق لكلية الآداب، من أكثر المثقفين التونسيين إثارة للجدل، جراء نوعية القضايا والمواقف التي يطرحها في كتاباته ومحاضراته. ومن خلال هذا الحوار، يكشف الشرفي بعض جوانب تفكيره التي تمثّل جانباً من الجدل النظري الذي يجري في تونس بعد الثورة، وخاصة بعد أن أصبح الخطاب الديني جزءًا فاعلًا في الفكر والسياسة والمجتمع.
- في ضوء ما يجري من تحولات وصراعات مفتوحة في المنطقة العربية، كيف ينظر المثقف عبد المجيد الشرفي لذلك، وكيف يرتب عوامل الإعاقة، بمعنى آخر أيهما أكثر تأثيرًا العامل السياسي أم العامل الفكري؟

في ظنّي، الأصل هو العامل الفكري، في حين أن الأزمة السياسية هي التي يتمظهر عبرها ومن خلالها هذا العامل، والمشكلة أن روّاد النهضة العربية لم يتجرؤوا على إعادة النظر في كثير من المسلّمات التي كانت موجودة وسائدة قبل تلك المرحلة. فقد كانوا غير مؤهلين بثقافة عصرية من أجل ذلك، ولم يقع في صفوفهم ما وقع في الغرب الذي عرف منذ القرن السادس عشر، وخاصّة خلال القرن الثامن عشر، حركة تنويرية عميقة نجم عنها أن كلّ ما كان بدهيًا أصبح محلًا لإعادة النظر؛ بداية من محور العقيدة وهي المسيح. هذه النوعية من المراجعات لم تحدث بالنسبة للمسلمين، لهذا نرى أن كلّ الإنتاج المتعلق بالإسلام لا يحمل في طياته تفكيرًا عميقًا يصل إلى درجة التعامل مع النص القرآني وكيفية فهمه. كان أغلبية المفكرين يتحرجون من ذلك، ومن صدرت عنه كلمة في هذا الاتجاه تعرّض للتكفير والاتهام بالزيغ والإلحاد.

- أتقصدون أن المشكلة الأساسية تتعلّق بكيفية التعامل مع النص المرجعي؟

نعم، اليوم يستشهد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالقرآن كما يستعمله أيضًا راشد الغنوشي أو أي إنسان آخر لتبرير سياساته ومواقفه. في حين أن السؤال المركزي يجب أن يتمحور حول الآتي: هل يمكن تقسيم القرآن إلى آيات صالحة لكلّ زمان ومكان وأخرى ظرفية تتعلق بمرحلة سابقة عاشها المسلمون في مرحلة التأسيس؟. روّاد النهضة العربية لم يكونوا مستعدين لهذا النمط من التفكير الذي يتمحور حول الوحي ودور النبي وكيفية تنزيل النص القرآني في السياقين التاريخي والحاضر، وقس على ذلك، الإشكاليات المتعلّقة بمفهوم السنة التي جمعت في مرحلة متأخرة عن زمن الرسالة.

- لكن ألا تظنّ أن النهضة العربية قد قطعت خطوة متقدّمة في مجال المراجعات، على الأقلّ بالنسبة لبعض رموزها مثل الشيح محمّد عبده؟

يعدّ محمّد عبده من الرموز الذين حاولوا إعادة بناء الخطاب الديني، لكن ما قام به يبقى نسبيًا. إن أدبيات رموز تلك المرحلة بقيت ملغومة بأفكار وتفاسير متعددة. لقد كان هاجسهم نفعيًا وليس هاجسًا تنويريًا. كانت هناك دعوة إلى عدم التعارض بين العقل والنقل، إلى جانب الدفاع عن العقل. لكن ذلك لا يكفي، بدليل أن محمّد عبده عندما يهرب من ثقافة عصور الانحطاط يلجأ إلى الفلسفة الإشراقية، وهذا جانب غير معروف عنده، لكن بقدر ما كانت الإشكالية حاضرة في خطابه، بقدر ما كانت الحلول التي طرحها غير مرتكزة على معالجة متينة للمسائل، ولهذا حتّى الخطوات البسيطة التي قطعها يمكن التراجع عنها بسهولة في ما يخصّ محورية الأحكام الفقهية في حياة المسلمين.

- ولكن ألا يبدو لك أن المنظومة الفكرية التي يعيش عليها وبها المسلمون حاليًا تقوم على تأثّر واضح بالنمط الغربي؟

المشكلة أن الفكر السائد يقبل كلّ ما يأتي به العرف والحضارة الجديدة ويتأقلم معه، على شرط أن يحافظ في الآن نفسه على المنظومة الأصولية التي بدأت مع الشافعي القائل "إن كلّ ما نزل بمسلم فقيه حكم لازم". وهذا موجود في كامل التفكير الحديث ضمن النطاق الإسلامي. بطبيعة الحال يمكن تعريف الأحكام الإلهية وتبريرها، ولكن لماذا لا نفكر بطريقة مغايرة ونقوم بمراجعة المنظومة الأصولية أساساً؟ ولما لا نعتبر أن المؤسسات البشرية في حاجة إلى أحكام جدية ومدنية، في حين أن الدين له مجال آخر بعيدًا من التشريع. أنا أعتقد بأن الثقافة الإسلامية تدور داخل عملية تلفيقية حيث تكون المزايدة سهلة. الإسلام الصحيح من وجهة نظري لا يحتاج لحكم فقهي.

- يعني أنكم تدعون إلى فكّ الارتباط بين الإسلام والفقه أو بين الإسلام والشريعة؟

بدون شك، كلّ ما يتعلّق بفقه المعاملات لم يعد له معنى تماماً، لأنه مرتبط بظرف تاريخي مرّ به المسلمون وغير المسلمين، وكانت لديهم حاجة لتبرير ديني في كلّ المجالات، هذه الفترة تجاوزتها البشرية. فالأنتروبولوجيا أكدت أن هذا قناع يغلّف المؤسسات، بينما النظام المجتمعي هو نظام بشري يلائم الظروف الذي يعيش فيها الناس، فلا مجال للإبقاء على المنظومة نفسها.

- لا توجد أحكام عديدة لا تزال صالحة في ظنّك، فهل أنت ضدّ مبدأ التمييز بين الثابت والمتحوّل في الإسلام ؟

بالنسبة للمؤمن، وأنا أعدّ نفسي مؤمناً، هذه الأحكام لها مبرراتها في عصرها وهي ترمي إلى غاية معينة، وواجبي وهدفي أن أبحث عن تلك الغايات أو المقاصد. هذه الأحكام لم تصدر عبثَا، ولها قيم أساسية في الدين تسعى لتحقيقها، لكن لماذا نتشبّث بالأحكام بحرفيتها لتصبح قيوداً تحدّ من قدراتنا وقدراتها على معالجة المشكلات المتغيرة؟. وهذا يقودنا من جديد إلى البحث عن كيفية التعامل مع النص القرآني.

– هل تدعون إلى تعطيل هذه الأحكام أو إعادة وضعها في سياقها؟

التعطيل هو نتيجة الإعادة، المشكلة أننا عندما نأخذ الأحكام التي تبدو بدهية، مثلاً "للذكر مثل حظ الأنثيين"، ننسى أن هذا ما تعلمناه ويتعلّمه كلّ مسلم في المدارس، حتّى الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، عندما حاول تسوية الإرث بين الجنسين لقي معارضة شديدة، في حين أننا عندما نقرأ القرآن نجد "كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين"، ثمّ نجد في سورة النساء؛ "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين"، فأيهما أقوى: كتب عليكم أم الوصية؟ لكن الفقهاء قالوا إن الآية منسوخة بحديث، وبما أنه لدي مشكلة أصلًا مع الحديث وأتعامل فقط مع النص القرآني، أصبح من حقّ صاحب الملكية أياً كان أن يوصي به لمن أراد وهذا هو المبدأ. إذاً لا بدّ من إعادة القراءة ومحاولة اختراق الطبقات التأويلية التاريخية وهذا هو الأهم.

- هل منهجكم هذا ينطبق فقط على الأحكام، أم يمكن توسيع العمل على جوانب أخرى من الإسلام؟

هذا المنهج أو الطريقة في الفهم لا يتعلّق فقط بالأحكام الفقهية، وإنما يخصّ النص القرآني ككلّ، كلّ ما يتعلّق بالنص القرآني يحتاج إلى إعادة النظر حسب المعرفة الحديثة. خذي على سبيل المثال القصص القرآني، فقصّة موسى وفرعون وشقّ البحر الأحمر، كلّ البحوث التاريخية تثبت أن ذلك أسطورة، وأن لا معنى بالنسبة للفترة التي عاش فيها موسى أن يهرب من فرعون إلى منطقة تقع تحت الحكم الفرعوني. ولا يمكن أن نأخذ تلك الأحكام والقصص، ونقول ذلك تاريخ أو حكم الله، لا يمكن أن نعتمد على ما عاشه المسلمون خلال القرنين الأوّل والثاني، إذا كان النص يخاطبني لا بدّ أن أنسب الكثير حسب التاريخ والزمان. على المؤمن أن يتخلّص من الكثير مما لم يعد صالحاً اليوم.

- بما أنك تنطلق من النص من أجل إعادة قراءته، فما هو دور الإسلام في هذا العصر إذا حذفنا الجانب التشريعي منه؟

أقول ومن دون تردد، إن هذا دور الإسلام، إما أن يكون وجودياً أو أخلاقياً أو الإثنين معاً. إذا اختار الإنسان أن يكون مؤمناً، فعليه أن يصدق بأن هناك حياة أخرى فيها جزاء وعقاب، وأن هناك قيماً أخلاقية سامية تجعل المؤمن يحبّ لأخيه ما يحبه لنفسه، والدين في هذه الناحية أفضل من كلّ الإيديولوجيات المحدودة التي تؤدّي إلى ما لا تحمد عقباه، بينما لدينا دين يقول لنا: "أنت حر ومسؤول". إذن، أنا أبني إيماني على هذه القيم الأساسية من دون الخوف من الموت، الطمأنينة النفسية التي يوفّرها الدين لا توفرها أي إيديولوجيا. البعد الوجودي والأخلاقي هو الذي يبرر الإسلام اليوم، وفي تحليلي أن هذا أفضل من كل الإيديولوجيات البشرية والتاريخية.

- هل يفهم من طرحك هذا أن الإسلام يتعلّق بالفضاء أو الحيّز الفردي؟

لست ساذجًا حتى أقول إن الدين ليس له إلا بعد فردي. لا يوجد أي دين ليس له بعد جماعي، لكن الصبغة الجماعية للدين هي ثمرة الإرادات الحرة، للتقارب بيننا هناك رابطة روحية نختارها. ربما نختلف سياسياً، لكن ممكن أن أعتبرك باختياري قريباً مني، أعتبر أن الطقوس الدينية ضرورية في كلّ دين لكنها ليست ملزمة لكلّ الناس، إذا المسلم يرتاح لما استقر عليه عبر التاريخ كالصلاة مثلاً فهو حرّ، لكن إذا أراد أن يصلي بطريقة أخرى فهو حرّ أيضاً. الرابطة الروحية أهم من الرابطة الشكلية، الرابطة الشكلية هي أن يؤدي الصلاة مع مليار من البشر بالطريقة نفسها.

- أليست هناك وحدة الطقوس التي من شأنها أن توفر الوحدة الروحية؟

لا أظنّ، إلا إذا كان ذلك قائمًا على اختيار حرّ، لكن ما أراه اليوم هو طغيان الجانب الشكلي فقط.

- هل تعتقد أن من الممكن أثناء الحجّ أن يتصرف كل مسلم على طريقته الخاصة؟

الحج أشهر معدودات وليس يوماً في السنة، الوقوف على عرفات ليس ضرورياً أن يكون في اليوم نفسه، مئات الملايين لا يمكن أن تحتفظ بالطريقة نفسها.

- حتّى ولو حددها الرسول؟

الرسول كان لا بدّ أن يحجّ بطريقة معينة، لكن الاحتفاظ وتكرار الطريقة نفسها، ليسا أمرين ضروريين من الناحية النظرية، ما زال في الإمكان إعادة النظر في الصبغة المعيارية للسنة. إن اعتبار الصبغة المعيارية للسنة هو في حدّ ذاته ضدّ المبدأ الأساسي للإسلام وهو الحرية.

- لو أخذنا المسيحية على سبيل المثال، نراها قد استندت في حماية وجودها إلى العديد من الطقوس التي تعتبر عنصرًا ساعدها على ضمان الاستمرارية.

من أهم المشاكل التي اعترضت مجمع الفاتيكان الثاني، هي مشكلة أن الطقوس تتكيف وفق البيئات الاجتماعية، ومن يرفض ذلك يخرج من الكنيسة، وقد خرج شقّ كامل منها لعدم قبولهم بتغيير الطقوس، بينما قبل مجمع الفاتيكان الثاني هذا المبدأ، إذن القياس بين الإسلام والمسيحية مختلف، الإسلام فيه حرية أكبر، رغم أن هذا لم يحصل في بيئتنا. الحركة التنويرية والإلحادية الفلسفية جعلت ما كان مرفوضاً سنة 1870 مقبولاً سنة 1965 في السياق المسيحي. حرية الضمير لم يتمّ الاعتراف بها إلا في الفاتيكان الثاني، أي بعد فصل الدين عن الدولة الذي حاربه المجمع الأوّل بشراسة.


- نعود إلى السؤال الأوّل، كيف يمكن أن نربط هذا التحليل بالأزمة الاجتماعية التي تتخبط فيها المنطقة بعد عملية الفشل التي صاحبت البناء، وكيف ننزل ذلك في السياق التونسي؟

ربما النجاح النسبي للثورة التونسية راجع إلى أن التوجه التحديثي الذي وقع في تونس لم يقابله الأمر نفسه في البلدان العربية الأخرى، لذلك ترسخت القيم التي لها صلة بالحريات مثل العدل، ودور المواطن، ودور الدولة، وهي قيم رسّختها المدرسة التونسية، بينما المدارس السورية والعراقية والمصرية لم ترسخ كلّ تلك القيم بالدرجة نفسها. ما حصل في تونس بعد الاستقلال من تعميم التعليم المختلط ومن عصرنة هذا التعليم منذ سنة 1958حتى أواسط السبعينيات، جنينا ثماره بعد الثورة، لكن في الآن نفسه كانت هناك عراقيل في هذه الثورة نتيجة توجه مضاد بدأ في السبعينيات مع مرحلة حكم محمد المزالي، وهو ما سمّاه محاربة الغزو الفكري. كنت رئيس قسم العربية في التعليم العالي وأذكر خلال اجتماع بتفقدية التعليم قال لنا مدير البرامج إنه يجب إعادة النظر في برامج التعليم؛ "فكيف نعلّم أطفالنا صراع الأجيال وهم مراهقون، لا بدّ أن نعلّمهم طاعة الوالدين وطاعة المسؤول، ونحارب الأفكار الهدّامة". كان ذلك اختيارًا أساسياً أثّر إلى حدّ ما في التوجه الأساسي للتعليم، بما أن التوجه الأوّل هو في اتجاه التاريخ وهذا ما أؤمن به، اتجاه نحو الحرية والمسؤولية والديمقراطية والعدل. وهذا ما تبقى وهذا ما أنقذنا في تونس، بحكم أنه على أساسه تكوّنت الأجيال الأولى، وما بلغه الجامعيون لطلبتهم بطريقة غير فجة، وأصبحت تلك القيم مشتركة في المجتمع التونسي.

- هل يمكن لهذه التجربة التحديثية أن تحقق بعض المكاسب اليوم في ظلّ التحديات التي تواجهها المنطقة؟

أنا متفائل إذا قست الأمور على حصيلة ماضي تاريخ الشعوب الأخرى وما وصلته اليوم، وخاصة أوروبا. ما زال الألمان إلى اليوم يدافعون عن فلاسفتهم، ويدافعون أيضًا حتى عن نابليون بونابرت لأنه قام بعملية تنويرية. فبونابرت الفرنسي حمل معه قيمًا جديدة لم تكن بدونه لتدخل إلى ألمانيا وإيطاليا، رغم أنه كان غازيًا لهما، لكن التاريخ تؤثّر فيه الأفكار. عندما يؤمن إنسان بفكر عن اقتناع ويكون واعياً بكل أبعاد هذا الفكر، يصبح هذا الفكر قدوة حتّى من طرف المخالفين له. مشكلتنا في العالم العربي أننا تغيرنا مقارنة بما كنا عليه من قبل، لكننا لم نقبل حتى الآن حقيقة أننا تغيرنا. وأعتقد أن المجتمع التونسي رغم نقائصه، لديه ما يكفي من العناصر التي تجعل بقية الشعوب العربية تقتدي بتجربته الحالية.وهذا ما يولّد الخوف لدى الأنظمة من احتمال انتقال العدوى إلى البلدان الأخرى. تحدّثت مع بعض الناس من ليبيا مثلًا، أجمعوا على أن الصراع في ليبيا ليس كما هو عليه في تونس التي يمكن فيها التعايش بين من يختلفون في الرأي، ويتمنى هؤلاء أن يكون الأسلوب التونسي سائدًا في ليبيا، كذلك الحال بالنسبة للجزائر، أما المغرب فهي حالة خاصة ومختلفة، إذ هناك التقاء واسع بين تونس والمغرب.

المساهمون