ضاع السوريون وبقي الثلج

ضاع السوريون وبقي الثلج

04 فبراير 2017
+ الخط -
لم يكن من ترتيبات هذا الصباح أن أرى الثلج، وحين تبدّى لي بنصاعته وبياضه اللا محتمل، ابتسمت له، وتجاهلته ممعنةً النظر لسواد قهوتي الذي يناسب مزاجي أكثر.
لم أكن لأتجاهل الثلج يوماً، فهو ضيف لطيف وخفيف، نشتاق له نحن السوريون، كلّ عام، وهو يمرّ علينا مرور الكرام من دون أن نمل أو نتثاقل من زيارته، لكنّني، وبكامل قواي العقلية والعاطفية، أدر عنه وجهي، وأتجاهله، بل ولا أرى في بياضه إلا فراغاً من المعنى؛ نعم، الأسود يليق بمزاجي أكثر على مبدأ مستغانمي.
وقد كنت يوماً أنتظره وأودعه بحرارة ولهفة. يومها لم أكن قد تركت مدينتي قسراً، ويومها كانت نافذة بيتي تجذبني لرؤيته، ويومها كان يوم الثلج بمثابة استراحةٍ من العمل الطويل؛ واليوم أراه بعيون الغربة، ومن نافذة الحنين وعبق الروتين القاتل.
علمتنا الحرب ما لم نكن نعلم، وتبدلت زاوية الرؤية لكلّ المفاهيم والقيم والصور الجمالية التي مرّت يوماً في حياتنا.
وليس تشاؤماً أن لا نرى بياضاً في الثلج، وليست سوداوية أن نمرّ على الأحداث التي كانت تهزّنا يوماً وكأنّها محض لحظات لا تخصّنا ولم تخصّنا يوماً! وعلى سيرة الأحداث التي تخصنا، ما الذي تغيّر بعد مؤتمر الأستانة؟ ومتى جنيف الخمسون بعد المئة؟ وماذا ننتظر أو نتوقع، نحن السوريون، من كل ما يجري؟ أو سيجري؟
مرّت السنوات العجاف، وبقيت ماكثةً على صدورنا، ولم يعد من اللطيف أن نتذمر من الحياة ضمن شروطها، حتى أنّني أشعر بعدم الوفاء، إن راودني الشعور بإمكانية زوالها، أو تغيّرها.
وربما من المنطق أن أحلّل صدمتي برؤية الثلج، بسبب المثل الشعبي الذي كان يمثل النشيد الوطني للسيدة الوالدة أيام الامتحانات، حيث كانت تنشد "بكرى يذوب الثلج، ويبان المرج". وفي تلك الأيام، كنت، مع أخوتي، نستمع للحن من تحت اللحاف، ونمتعض بسماعه، لأنه أيقونة أمي المحفزة، واليوم حين رأيت الثلج تذكّرت أمي وأيقونتها، والأصعب والأقسى من كلّ ذكرياتي هذه، هو النتيجة الدامية التي سطعت أمامنا، حين ذاب الثلج السوري الفكري العظيم، وحين بدأت تنهال على رؤوسنا كراته التي قضت على ثلاثة أرباعنا، وربما ستقضي على ما تبقى منّا قريباً. لذلك، أدرك اليوم أنّ الثلج بات مرعباً ومزعجاً، لأنّني أرفض فرحة تخصني من وراء نافذة دافئة، بينما تطحن أطراف أطفال كثر ممن يلتحفون السماء، ممن عاشوا تجربة اللجوء والمخيمات، والتشرّد الذي ما انتظروه يوماً ولا سعوا إليه.
أستميحك العذر، أيّها الثلج الذي لم تعد نفسي تنتظره، ولا روحي تعانق نقاءه، ففي القلب متسع كبير للألم والوجع والسواد فقط، وعذراً فيروز؛ لم يضع شادي فقط، فقد ضعنا جميعاً، وبقي الثلج.
ABC99897-CFDB-4E99-A44B-6CE304011C62
ABC99897-CFDB-4E99-A44B-6CE304011C62
يسرى السعيد (سورية)
يسرى السعيد (سورية)