ما زال يذكر تفاصيل أول عملية جراحية أجراها لمصاب في بيت مهجور في الغوطة، بأدوات متواضعة. ويتحدّث الطبيب الجراح، صخر الدمشقي، ورئيس شعبة الصحة في مديرية دمشق وريفها، لـ "العربي الجديد" عما يشهده في مسقط رأسه.
- تعدّ نفسك في قلب الثورة. كيف تغيّرت حياتك منذ انطلاقها؟
منذ خمس سنوات، لم أعش حياة الأسرة المستقرة. بدأت حياة شاقة مختلفة عما ألفته. نسيت البدلة الرسمية والكرافتة (ربطة العنق)، ونسيت الشوكة والسكين. صرت أتنكّر وأتلثم بالكوفية، متنقلاً بشاحنة بيك أب أحياناً وعلى الدراجة النارية أحياناً أخرى، أما النوم فلا مشكلة كيفما كانت ظروفه.
- "ثورات الربيع العربي".. هل توقعت امتدادها إلى سورية؟
قبل الثورة في سورية، عشنا الربيع العربي في تونس ومصر، وانتعشت آمالنا بأن خلاصاً آتياً سوف يحررنا. كنت متفائلاً أيام ربيع دمشق بأن التغيير الديموقراطي السلمي الهادئ حاصل، لكن طبيعة الأنظمة هذه غير قابلة للإصلاح. اكتشفنا ذلك عندما بدأت عمليات ملاحقة واعتقال كل من ارتادوا المنتديات الثورية، وعبّروا عن آرائهم بشفافية. وعندما نظمت بعض الاعتصامات النسائية أمام وزارة الداخلية للمطالبة بإطلاق سجناء الرأي ورفع حالة الطوارئ، رحت أتساءل "أليس عيباً أن تقتصر هذه الاعتصامات على النساء؟". وتتابعت الدعوات على موقع "فيسبوك" للتواصل الإلكتروني وفي المجتمع السوري عموماً، لبدء شيء ما. وكانت أحداث درعا بحق تلاميذ المدارس، الشرارة.
- كيف بدأت نشاطك في الثورة؟
في 18 مارس/ آذار من عام 2011، كانت أولى التظاهرات التي انطلقت في الجامع الأموي في دمشق. شاركت فيها وتعرضت للركل والضرب والسحل، واعتقلت. أذكر تلك التظاهرة بتفاصيلها، وكيف علت أصوات الشباب في الجامع تهتف للحرية. كان موقفاً مهيباً. دمعت عيناي وقتها، وظننت للوهلة الأولى أنني في حلم. وتساءلت: هل يُعقل أننا كسرنا حاجز الخوف بشكل جماعي؟ يا الله لقد بدأنا ثورتنا.. يا الله لقد ولدنا من جديد.
- ما الأثر الذي تركه الاعتقال في نفسك؟
خرجت من المعتقل بعد أيام، مع كسر في إحدى فقرات العمود الفقري، ونزيف حول الكلية، وكدمة كبيرة حول عيني. ومنذ ذلك الوقت تغيرت حياتنا. نسّقنا لخروج التظاهرات في الغوطة وشاركنا فيها حيثما كانت. حماسة الشباب كانت في حاجة إلى عقل الكبار، ولم نخذلهم.
- ما الذي دفعك إلى المشاركة في الثورة؟
كنت أحلم بالزمن الذي أقول فيه رأيي بحرية من دون خوف من التغييب في أقبية المدينة، وبالزمن الذي يتحقق فيه تكافؤ الفرص، وبالزمن الذي تكون فيه حرية التعبير مدخلاً للإصلاح ومكافحة الفساد. وكنت أحلم بدولة المؤسسات وفصل السلطات والتداول السلمي للحكم. لذا شاركت من دون تردد.
اقرأ أيضاً: إياد الجرود.. الناس وحدهم يروون أحداث الثورة السوريّة
- ما هي أبرز الأحداث التي لا تغيب عن بالك؟
لا أنسى يوم الجمعة 22 أبريل/ نيسان 2011، عندما اتجهت تظاهرات الغوطة السلمية للاعتصام في دمشق من محاور عدة. يومها ارتكبت أولى المجازر بحق الغوطة. قابلت قوات النظام جموع المتظاهرين بالرصاص الحي. في البداية، كنا نظن أنهم يطلقون في الهواء أو يطلقون رصاصاً خُلّبياً. لكن مع سقوط الشهداء والجرحى، أدركنا هول الجريمة. وما زاد الطين بلة أنهم لحقوا بالجرحى إلى المستشفيات.
- مع تصاعد أحداث الثورة وتعسكرها وانقسام المناطق، بدأ نشاطك الطبي...
في البداية، كان لا بدّ من القيام بشيء ما لمنع وصول قوات النظام إلى جرحى التظاهرات. من هنا، بدأت مع رفاقي الأطباء، بإنشاء النقطة الطبية المتنقلة، وهي عبارة عن تجهيزات قسم إسعاف في حقيبة وتجهيزات غرفة عمليات بدائية في حقيبة أخرى مع مستلزماتها الدوائية. ورحنا نتنقل من مكان إلى آخر كفريق، بحسب الظروف الأمنية في المنطقة.
ومع سيطرة قوى المعارضة على الغوطة في عام 2012، صارت نقاطنا الطبية ثابتة وبدأت الكوادر الطبية بالتلاقي والتنظيم على مستوى الغوطة. وتأسس المكتب الطبي الثوري الموحّد، وكنت من المؤسسين وأول رئيس له.
- كيف حافظتم على هويّتكم؟
كانت مهمة التأسيس شاقة. أما الحفاظ على هوية المكتب الطبي الثوري وتأسيس العمل المشترك المنظم، انطلاقاً من الفوضى وتجنب السقوط في أفخاخ بعض الداعمين من ذوي الأجندات، فكانت الأمور الأصعب، إلى جانب الحصار والقصف. وقد أنجزنا حيناً وأخفقنا حيناً آخر.
- كنت شاهداً على قصف الغوطة الشرقية بالكيماوي. كيف حميت نفسك من الإصابة بالغازات السامة عند علاج ضحايا المجزرة؟
لم أفلت من الحادثة، وهذا أمر طبيعي. في البداية، وضع المصابون في الفناء أمام المستشفى، وراحت صهاريج المياه ترشّهم لإزالة التلوّث الذي طالهم. من ثم، نُقِل هؤلاء إلى الداخل لتلقي العلاج. لم نكن نملك بدلات واقية ولا كمامات خاصة، بل كنا نرتدي أردية العمليات الجراحية ونضع كمامات من القماش وكفوف فقط. بعد ساعات، بدأت أشعر بضيق في التنفس وتشوش في البصر واضطراب في نبضات القلب، وسقطت أرضاً نتيجة التماس مع المصابين. عمد زملائي إلى إسعافي، وأدخلوني إلى العناية المشددة، حيث تلقيت العلاج المناسب مع تزويدي بالأكسجين. بعد ساعات، شعرت بتحسن وأصررت على الخروج. هكذا، عدت فوراً إلى نقطتي الطبية.
أودّ الإشارة إلى أن أهل الغوطة راحوا لأيام عدّة يبحثون عن مفقودين. لم يكن يهمهم إن كانوا أحياء أم أمواتاً، المهم أن يعرفوا مصيرهم وأين دفنوا. ومن سخرية القدر أن تجد من أضناه البحث عن مفقود وهو يحمد الله لأنه وجد جثته. الأولوية عندهم صارت الدفن اللائق وليست الحياة. إنه المضحك المبكي.
- لماذا لم تغادر أرض الغوطة لغاية اليوم؟
الغوطة كما سورية والثورة، في حاجة إلى كل أبنائها. نحن دخلنا الثورة بإرادتنا، ولا توجد أنصاف ثورات. لذا لا بد من الاستمرار وعدم إخلاء الساحة لخاطفي الثورة وأصحاب الأجندات والمصالح السياسية والاقتصادية.
- كيف تقيّم اليوم الوضع الطبي في الغوطة، وكيف تؤمنون احتياجاتكم؟
نعيش واقعاً مأساوياً وسط الحصار وفي ظلّ نقص كبير في الكوادر وشحّ في الإمكانيات، إلى جانب استهداف المستشفيات والفرق الطبية. لكن إرادة البقاء والثبات تغلب. ونحاول اجتراح عدد كبير من الحلول في الغوطة، فنصنع بعض الأدوية واللوازم الطبية، وندرّب الكوادر، ونحاول كسر الحصار بشكل من الأشكال وتمرير مستلزماتنا من فوق الأرض ومن تحتها.
صامد في الغوطة
ولد صخر الدمشقي في الغوطة، وما زال هذا الطبيب الجرّاح صامداً هناك. قبل عام 2011، عمل في مستشفى حكومي في دمشق، "منذ بداية الثورة السورية رحت أخفف من آلام المصابين والجرحى الذين يسقطون في المجازر والقصف الشديد". يأتي ذلك من خلال منظمة "سراج للتنمية والرعاية الصحية" التي تنشط في الغوطة الشرقية منذ بداية الثورة في الجانب الطبي، "وأمارس نشاطي كابن للغوطة وابن للثورة في القضايا العامة المتعلقة ببناء وتوحيد عمل ورؤية المؤسسات الثورية".
اقرأ أيضاً حسّان تقيّ الدين: العالم حقير ودماؤنا رخيصة