روسيا: الأمر لي في القطب الشمالي

08 سبتمبر 2015

مشهد في منطقة القطب الشمالي (أ.ف.ب)

+ الخط -
حملت أنباء الأسبوعين الماضيين خبراً عسكرياً، ربما هو الأول من نوعه في تاريخ البحرية الروسية، فيما خصّ المنطقة القطبية الشمالية. فقد أعلن المتحدث باسم هذه البحرية، العقيد فاديم سيرغا عن البدء، في يوم 24 أغسطس/آب، في منطقة القطب الشمالي تدريبات الأسلحة المشتركة التكتيكية لقوات وسفن الأسطول الشمالي وسفنه، وذلك في شبه جزيرة تايمير القريبة من مدينة نوريلسك. وأفاد أن التدريبات يشارك فيها ما يزيد عن ألف فرد و14 طائرة و34 قطعة من الآليات الحربية والخاصة، بما فيها عربات الإنزال القتالية، والجرارات والقاطرات المدرعة، والدرّاجات النارية رباعية الدفع، والطائرات من دون طيار. 

وأوضح قائد الأسطول الروسي، الأدميرال فلاديمير كوروليوف، والذي يشرف على التدريبات، "أنها تهدف إلى تعزيز الأمن لمنطقة القطب الشمالي الروسي، وضمان الملاحة البحرية الحرّة، والنشاط الاقتصادي الروسي في المنطقة، وحماية الأراضي والمنشآت الروسية من المخاطر العسكرية المحتملة".
وتكشف هذه التصريحات العسكرية، بما لا يدع مجالاً للشك، طبيعة الصراع الدولي على منطقة القطب الشمالي، باعتبارها، في كثير من مساحتها، أرضاً بكراً غنية بالموارد والثروات الطبيعية على اختلافها، خصوصاً بعدما باتت، اليوم، البقعة الجغرافية الأكثر اتساعاً وسرعة على أرض الكوكب، لجهة ذوبان الغطاء الجليدي فيها (بمعدل وسطي يبلغ 3% في العقد) وما ينتج عنه، كنتيجة، طبعاً، للاحترار المناخي، من كنوز طبيعية هائلة، بدأت تفتح الشهيّات والأطماع الاقتصادية والتجارية على مصراعيها.
ومع أنه لم تقدرالاحتياطيات النفطية والغازية بدقة بعد، كما يرى ستيفان روسيل (أستاذ العلوم السياسية في جامعة كيبيك الكندية)، إلا أنها تعتبر كبيرة للغاية، قد تبلغ، حتى ربع الاحتياطيات العالمية من مادة الهيدروكاربون التي لمّا تستكشف بعد، وفق الرأي العلمي الأكثر تفاؤلاً. كما أن وجود مناجم معادن (رصاص، زنك، ذهب، تنغستين، أورانيوم، فضة وماس)، يهمّ الحكومات والشركات الخاصة في آن معاً. ومع أن الأراضي القطبية الروسية أبرزت أكثر من الساحل والأرخبيل الواقعيْن من الجهة الأميركية الشمالية، انطلقت الشركات الكندية والأميركية في سباق تنقيب عن الغاز والماس، لكن تكاليف الاستخراج والنقل لا تزال تخفّف من الحماسة طبعاً، مع العلم أن تقدم التكنولوجيا، وارتفاع أسعار المواد الأولية قد يزيلان هذا العائق.
على الصعيد التجاري، سوف يسمح ذوبان الجليد العائم بفتح طرق بحرية جديدة، تقلّص جدّاً المسافة بين آسيا ومرافئ أوروبا، والساحل الشرقي لأميركا الشمالية. وينطبق هذا الكلام على الممر الشمالي الشرقي من الجانب الروسي، أكثر مما ينطبق على الممر الشمالي الغربي من الجهة الأميركية؛ ذلك أن الجليد يسدّه بدرجة أقل، وهو يخلو من الجزر التي تُصعّب الإبحار. كما يمتاز بامتلاكه مرافئ مهمة، بالإضافة إلى أن هذه الطريق هي الأقصر بين اليابان وأوروبا.

ولعله في محلّه قول بعضهم، إن منطقة القطب الشمالي ستصبح، في السنوات القليلة المقبلة، مسرح منافسة شرسة، ونزاعات متكررة، ليس بين الدول المجاورة للقطب وحسب، بل بين كل القوى الاقتصادية الكبيرة في العالم أيضاً. ويُظهر الرأي الأكثر تشاؤماً أن منطقة القطب الشمالي ستصبح، في القرن الحادي والعشرين، على ما كانت عليه أفريقيا في القرن التاسع عشر؛ ولا تنقص الحجج، هنا، وأولها طمع الدول الصناعية بالاحتياطيات الطبيعية الهائلة في المنطقة. ويمكن لهذه الأطماع، أيضاً، أن تتحوّل إلى أسباب نزاع، ولاسيما أن سندات الملكية الخاصة ببعض المناطق لم تُمنح بعد.
يخضع تقسيم أعماق البحار في منطقة القطب الشمالي لأحكام اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التي وُقّعت في خليج مونتيغو في جامايكا في 1982. فإمكانية أن تطالب دولة معينة بإدارة الموارد الموجودة أبعد من منطقتها التجارية الخالصة، (حتى مسافة 200 ميل بحري في المياه الإقليمية) تتوقف على قدرتها على إثبات أن الأراضي المعنية تُشكّل امتداداً لجرفها القاري. وتتاح أمام كل دولة مدة عشر سنوات بعد التصديق على المعاهدة، لكي تدعم ادعاءاتها. في هذا الإطار، تطالب كل من روسيا والولايات المتحدة وكندا والدنمارك والنرويج بقسم من الأرضية المحيطة في منطقة القطب الشمالي. ولا شك أن روسيا هي الأكثر شراسة في هذا السياق، فقد كانت أول من قدّم التماساً، وفقاً لشروط الاتفاقية (صدّقت عليها في 1997)، وتنوي أن تثبت أن سلسلة جبال لومونوسوف تشكّل امتداداً للجرف القاري الروسي أبعد من القطب الشمالي، وصولاً إلى المنطقة التي تطالب بها الدنمارك. ولذلك، تتحرك اليوم بقوة، وتجري تدريبات عسكرية، موجّهة رسائل واضحة، إلى من يهمّه الأمر في الدنمارك نفسها، وفي الدول الكبرى التي تقف وراء الدنمارك، ولسان حالها يقول: الأمر لي في القطب الشمالي.
ونسارع إلى القول، إن الخلافات، ولعبة المزايدات التي تمارسها دول، مثل روسيا وكندا، أيضاً، تضفي صدقية على الأحاديث المقلقة المتعلقة بـ"حرب باردة حول الجليد العائم"، أو "هجمة على منطقة القطب الشمالي"، لكن احتمال تدهور هذه المنافسات، إلى حدّ التحوّل إلى نزاع مسلح، أمر ضئيل للغاية؛ فكل الدلائل توضح أن هذه الخلافات يمكن أن تجد حلاً سياسياً أو قانونياً، لأن كل الأطراف المعنية متفقة على ضرورة إجراء حوار حول إدارة الرهانات المتعلّقة بمنطقة القطب الشمالي، وأهمية هذا الحوار.
ومنذ المبادرات التي أطلقها ميخائيل غورباتشوف في عام 1987، تمأسست العلاقات الدولية في القطب الشمالي إلى حد بعيد. فمجلس القطب الشمالي يضمّ الدول الثماني المجاورة للقطب، وممثلين عن مجموعات السكان الأصليين، مع جمعيتها، ومؤتمر برلمانيي منطقة القطب الشمالي. أما مجلس بحر بارينت الأوروبي القطبي فيضم الدنمارك وآيسلندة والنرويج والسويد وروسيا وفنلندا والمفوضية الأوروبية؛ فيما يختصّ المجلس الشمالي بالدول الإسكندينافية. إلا أن قرارات هذه المؤسسات غير ملزمة، وتتمتع بسلطات محدودة فقط. فعلى عكس الوضع في القارة القطبية الجنوبية (أو "أنتاركتيكا")، ما من معاهدة رسمية تنطبق على منطقة القطب الشمالي.
أخيراً، صحيح أن شعوراً باحتدام المصالح بدأ بالظهور العلني حول تلك "المناطق العذراء" من العالم، إلاّ أن منطقة القطب الشمالي بعيدة، حتى الآن، عن أن تكون مسرح أزمة دولية وشيكة. وتتراكم معظم الدوافع إلى القلق فقط في حالة سيناريوهات قد تتغيّر ظروفها بسرعة. وهذه السيناريوهات يتوقّعها الروس، قبل أي طرف دولي آخر، خصوصاً في زمن البوتينية السياسية التي تستهدف، أول ما تستهدف، استعادة "قوة روسيا ومجدها" قبل أي اعتبار آخر.



A2AFC18A-C47E-45F2-A2B6-46AD641EA497
أحمد فرحات

كاتب وشاعر لبناني، عمل في عدد من الصحف اليومية اللبنانية والعربية، وفي مجلات ودوريات فكرية عربية.