رواية صلصال امرأتين... قمع الإنسان أساس الملك!

رواية صلصال امرأتين... قمع الإنسان أساس الملك!

03 فبراير 2020
+ الخط -
ثمة علاقات متداخلة تجمع الإنسان العربي بوطنه، وكل عربي يحمل في قلبه مكانة لسورية والعراق، ناهيك بقضية العرب الأولى فلسطين. لا مزايدة في ذلك بأيّ حال؛ فعلى أرض دمشق بسطت الدولة الأموية نفوذها، وفي دار السلام (بغداد)، أشرقت شمس الخلافة العباسية. ولأننا شعوب يقتلنا الحنين ونغرق في النوستالجيا، فلا غرو أن نذوب حنينًا لماضٍ وتراثٍ تركا بصماتهما على وجه التاريخ.

عاش العراق الحديث، عقب ثورة العشرين وما ترتب عليها، حالة من الزخم احتبست فيها الأنفاس، واستعادت الذاكرة ثورة الزنج في البصرة، واضطراب الأحوال قبل قرون، ثم أقبلت خمسينيات القرن المنصرم بأتراحها وأفراحها، وأعقبها سيل دماء وتماوت في سبيل اقتناص كرسي أو سلطة. يرسم هذه الأحداث المؤرخ الفلسطيني حنا بطاطو، في الجزء الثالث من كتابه "العراق"، ويوثّق أحداثًا دامت توابعها طويلًا، ولربما تمتد حتى اللحظة!

في خضم هذه الأمواج المتلاطمة من التناحر على السلطة، يقدّم الشعب دمه قربانًا ليحيا الباب العالي، تستباح كرامة الإنسان دون كبير - ولا حتى صغير - اهتمام؛ فلا بأس أن يُفرش الطريق إلى السّلطة بالدماء والشعارات الطنانة الرنانة، والشعوب العربية طيبة متسامحة، تنسى وينطلي عليها معسول الكلام. كم ضاع أناسٌ ليحيا رجل، وكم أريقت دماءٌ لحقن دم شخص ما! هذه - وباختصارٍ مرير - ملامح مأساة كاميل كلوديل البغدادية.

في "صلصال امرأتين"، تطل علينا ميسلون فاخر بتجربة روائية جديدة - الثانية في رصيدها الإبداعي - لتضع بين أيدينا طرفًا من عذابات المجتمع العراقي، وتنسج على المنوال العربي القديم عملًا متميزًا، عمدت خلاله إلى تضفير الحاضر بالماضي، وتطعيم العذابات العراقية بعذاباتٍ فرنسية، إذ الإنسان في الشرق لا يختلف عن نظيره في الغرب مورفولوجيًا - الشكل الظاهري - ولا فسيولوجيًا - وظائف الأعضاء - بحال.


تبدأ الأحداث عام 1964، تنتظر أسرة صغيرة فنية صغيرة مولودها الأول، وقد عاد رياض وزوجته راوية من فرنسا، درسا فن النحت وتشبعا بأعمال كثيرين من عمالقة هذا الفن، لكن استوقفتهما تجليات النحاتة الفرنسية كاميل كلوديل، وأعمالها الخالدة والتي توجتها بمنحوتتها "عصر النضوج". يرزق الزوجان بابنة، ويقرر الوالد أن يخلع عليها اسم الفنانة الفرنسية، ضاربًا عرض الحائط بتذمر زوجته!

تكبر الابنة في محيطٍ فني آمن، ويفوز والداها في مسابقة حكومية لنحت نُصبٍ تذكاري، وتساهم الصغيرة معهما في بعض التفاصيل الدقيقة، كاشفةً عن موهبة واعدة في دنيا النحت. تتوجس الأم خيفة مما تشاهده؛ فثمة تفاصيل تربط بين ابنتها وسميتها الفرنسية، حبهما للقطط - على نقيض الوالدين - وبراعة مبكرة في النحت وملامح الوجه، وتخشى الأم أن يجمعهما مصيرٌ واحد.

لا تشفع الشعارات البراقة المنمّقة، إذ لكل حادثٍ حديث، وإن كان الرئيس قد رفع عقيرته "الفنان كالسياسي، كلاهما يصنع الحياة"، لكن مستجدات السياسة تفرض نفسها، واختلفت نبرة الخطاب من الملاطفة إلى الزمجرة والوعيد. لم يُجد خط التالوك - أعمق نقطة في شط العرب - تهدئة الأوضاع بين الجارتين؛ فاندلعت الحرب العراقية الإيرانية، وامتد أوارها ثمانية أعوام، ومن بعدها غزو الخليج 1991، ثم حصار العراق المُفجِع.

وجد رياض نفسه بين غمضة عين وانتباهتها على الجبهة، ترك إزميل النحت ليحمل الكلاشينكوف، أُرغم على القتال دون مسبق إعداد، وغاب عن أسرته الصغيرة؛ فتركها نُهبةً للطامعين والانتهازيين. بُعيد وفاة والد كاميل كلوديل الفرنسية، لم يمضِ أسبوعٌ إلا وأمها تضع ابنتها الوحيدة في مصحة عقلية، قضت ثلاثين عامًا من حياتها بين جدران المصحة، لم يساعدها أخوها الشاعر والدبلوماسي البارز - يومها - بول كلوديل، وارتأى أنها تدفع ثمن حماقاتها مع أستاذها وعشيقها، النحات الفرنسي أوغست رودان، الذي يكبرها بأربعةٍ وعشرين عامًا.

وضعت كلوديل حياتها - قبل جسدها - بين يدي رودان، لكنه يرفض الإنجاب منها، ويأمرها بالإجهاض ثلاث مرات، ثم يلفظها سنة 1893 ليحافظ على وجاهته الاجتماعية، ويعود إلى صديقته القديمة روز بيريه، ويدخل في علاقة جديدة مع تلميذة أخرى يقال لها صوفي بوستولسكا؛ لتصاب كاميل كلوديل بصدمة نفسية أشد وأفدح، تنتهزها الأم لتنتقم من ابنتها.
تبتلع الحرب العراقية الإيرانية الأب، وتكابد ابنته مرارات الحياة مجرّدةً من أقوى دفاعاتها؛ فالأب عماد الأسرة وفارسها الأول قد ولى، وتضطر الأم في ربيعها الأربعين للزواج من مديرها الأعرج؛ ليكون "ظل رجل ولا ظل حائط"، ويتحرش الأعرج بالحسناء الصغيرة، وتُطرد من البيت إرضاءً لكرامته المخدوشة! أطاحت الحرب بساقه وكرامته ونخوته جملةً واحدة، وتقرر الفتاة الرحيل من وطنها بحثًا عن ملاذ آمن.

تغادر وصديقتها إلى الأردن، ومنها وبشق الأنفس تقتنص من براثن السفارة الروسية ثلاث تأشيرات - لهما ولشابٍ يدعى رعد - لتكون موسكو بوابة عبورهم إلى أوروبا الغربية، وتضن عليهم الغربة بما يخططون له، وتفدحهم الأهوال وتستبيح ساحتهم؛ فلم تبتسم لهم إلا قليلا، ولسان حالها "من لم يُكرم في وطنه، فلا كرامة له في أيّ مكان".

في البنية السردية، أفادت ميسلون من التقنيات المختلفة، ووظفت المفارقات الزمنية ما بين الاستراجاع (داخلي/خارجي)، والاستباق (داخلي/خارجي)، وإن كانت الغلبة للاسترجاع على الاستباق. يبدأ الاسترجاع الخارجي بالعودة إلى أيام رياض وراوية الدراسية بفرنسا، وتعرفهما إلى فن كاميل كلوديل "أما رياض فيركض هنا وهناك، وهو - كعادته - لا يجيد التصرُّف في الأزمات، وهذه ليست أزمة عادية، بل ساعة ولادة زوجته راوية، التي زاملته خلال فترة دراستهما لفنّ النحت، حين تتبعا معًا خطوات النحاتة الفرنسية كاميل كلوديل، بعدما تشبعا بأسرار عالم النحت، كما كان التسكُّع في شوارع باريس جزءًا كبيرًا من سعادتهما".

تتوالى الاسترجاعات الخارجية تترى، وتتمثل في تشابك سردي بين واقع العراقية الصغيرة وسميَّتِها الفرنسية، وتبيِّن لنا شيئًا فشيئًا جوانب مختلفة من علاقة أوغست رودان بتلميذته النجيبة البالغة من العمر تسعة عشر عامًا، وكيف تأثر هو بشخصيتها وفنها، وكيف دمر حياتها بشبقه الجنسي، واختلاف نظرتهما للجسد. هنا، نجد إشارةً سريعة وذكية للعلاقة بين ألفريد دي موسيه وجورج صاند، ويمكننا إدراجها في نطاق التناص الأدبي - سنتحدث عنه لاحقًا - إذ تركها موسيه وجرح كبرياءها الأنثوي، تمامًا مثلما فعل رودان بكلوديل.

تجسيدًا لخيبة أملها في رودان، نحتت كلوديل "عصر النضوج"، وفيه تفصح وتفضح علاقتهما الغريبة (كلوديل-رودان) وعشيقته الجديدة بوستولسكا. دمرت كلوديل عددًا من أعمالها، ولم يُنجز رودان "بوابة الجحيم"، التي استلهمها من الكوميديا الإلهية لدانتي، بعدما شرع فيها سنة 1880 بطلب رسمي من الدولة. أما الاسترجاع الداخلي، فنراه جليًّا بعد خروج كاميل العراقية من بيتها، وتذكُّرها محاولة اعتداء زوج أمها عليها "لقد تزوجتْه ولم أعترض، عاشت معه في بيت أبي ولم أناقش، كان يعاملها مثل الجارية ولم أحتج، تحكَّم بها وبكل ما نملك ولم أتفوّه بكلمة احترامًا لمشاعرها، وأنا أراها ذليلة مهزوزة بين يديه، وكان يتصرف بحياتنا نحن الاثنتين كأننا جزء من ممتلكاته الشخصية، لكن لم أكن أتخيّله أن يتمادى ويدخل غرفتي ليراودني عن نفسي، وحين طردته من غرفتي ضربني ونعتني بما لا يُقال".


في الاستباق، نجد أم صديقتها ندى تحدث نفسها مستنكرةً صنيع راوية "كيف لامرأة في منتصف الأربعينيات أن تنسى زوجها المفقود وتتزوج بهذا العمر، ولديها ابنة شابة؟ ثم خطرت ببالها (الحديث هنا على لسان الراوي) فكرةٌ شيطانية في أن هذا الرّجل، وقد تزوّج امرأة بهذا العمر، ربما فعل ذلك إعجابًا بابنتها! (ثم يؤكد الراوي علينا وقوع ما تنبأت به أم ندى) وها هي نواياه قد تكشّفت بعد تحرّشه بالفتاة لمراودتها عن نفسها". هذا نوع من الاستباق الداخلي، ومثله قول الشاب الفلسطيني أحمد، طالب الطب بموسكو، وقتما تعرّف رعد على بعض رجال المافيا "نهضت كامي مستاءة، ولحقت بها ندى، وظل هو صامتًا في غرفة أحمد الذي وضع كفيه على وجهه، وكأنَّه يردد المثل الروسي (الطريق قصيرةٌ نحو المصيبة)".

ساعتها، كان أحمد يحذر رعد من الانزلاق في فخ المافيا، وأصر رعد على رأيه لتأمين نفقات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا الغربية، وبعد أيام قتلت المافيا رعد ومن قبله قتلت حبيبته ندى، وبذلك يكون ما استشرفه أحمد قد وقع بالفعل. أما الاستباق الخارجي، فهو أن يتنبأ الراوي أو بعض شخصيات الرواية بأمر ما، على سبيل الظن أو الاستشراف، لكنه لم يتحقق في الزمن الروائي، ومثال ذلك أن تجلس كاميل وندى في فندق متهالك بشارع باب العامود في عمَّان، وتنظران إلى أطفال حولهما "وقد تلمّستا جبين إحدى الصغيرات الأقرب إليهما، وراحتا تتخيلان مشاهد الرعب لحظة يعبث مشرط الجراح بأجسام الصغيرات لاقتطاع أعضاء منهن لحساب الأثرياء"؛ فهذا الاستشراف أو التوقع أو الظن لم يحدث في نطاق زمن الرواية، وربما يقع لاحقًا أو لا يقع، ومن ثَمَّ فهو استباق خارجي.

تنوّع التناص في الرواية ما بين ديني وشعري وفني وسياسي؛ فعلى سبيل الذكر جاء التناص الديني حاملًا توقيع المطربة الفرنسية إديث بياف (لست نادمة على الإطلاق/ الحياة بالوردي)، وهي مطربة سيئة الحظ، لا تقل بؤسًا عن ابني العراق المتشائمين الشهيرين "ابن الرومي، نازك الملائكة"، وقاطن العراق "أبي العلاء المعريّ"، وكاميل كلوديل الفرنسية، والشاعر الإنكليزي جون كيتس، والشاعر البائس المصري عبد الحميد الديب، ونظيره السوداني إدريس جمّاع، وكذلك أغنيات للأيقونة فيروز (يا ريت الدنيا بتزغر/ الأوضة المنسية)، وأخرى للمطربة الروسية ألا بوكاشوفا (مليون زهرة قرمزية).

جاء التناص الشعري حاملًا توقيع أبي الطيب المتنبي "على قلقٍ كأنَّ الريح تحتي"، ومحمود درويش "وأعشق عمري لأني/ إذا مُتُّ/ أخجلُ من دمع أمي..."، ورسول حمزتوف "شيئان في الدنيا يستحقان المنازعات الكبيرة: وطنٌ حنون، وامرأةٌ رائعة"، ونزار قباني"... وتكف الأرض عن الدوران"، بينما من التناص الديني نقرأ "لا حول له ولا قوة"، و"فتمنوا الموت إن كنتم صادقين"، وكذلك "لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، ثم تناص الأمثال "زاد الطين بلة"، "المصائب - فعلًا - لا تأتي فرادى"، والمثل الروسي "الطريقُ قصيرةٌ نحو المصيبة".

كل ما سبق تناصٌ صريح، أما التناض الضمني، فمثاله "القرع يتزايد وقد تطوّر إلى ضربٍ بالأقدام على الباب الحديدي. بثّ هذا الموقف الرعب في أفئدة الجميع ..."، ويحمل في طياته تناصًا ضمنيًا لأجواء رائعة الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز "قصة موت معلن"، إذ كان بطل القصة "سانتياغو نصار" في مأزق حقيقي، ولم تنجده الطرقات العنيفة على الباب الخلفي محكم الغلق. ثمة تناص ضمني آخر، ففي نهاية الرواية يبرز سؤال أمٍّ تحمل رضيعها "هل يتحمل الصغير أن تحشرونا في صندوق الثلاجة ولا يختنق؟"، تناص ضمني لرواية غسان كنفاني الأولى (رجالٌ في الشَّمْس).

هيمن الراوي على الأحداث، وأمسك بكل خيوط اللعبة؛ فكانت الرواية أحادية الصوت (مونوفونية)، وفق تعبير ميخائيل باختين، وجاءت اللغة مناسبة للأحداث ومتنوعة ما بين الكلاسيكية والشعرية، حاملة البصمة الزمنية للزمن الروائي والأفضية الروائية؛ فنجدها تشمل كلمات مثل (سقوط الاتحاد السوفييتي، كيكة نابليون، الشيوعية، أوبرا لاترافياتا لفيردي، البولشوي تياتر، الأرستقراطية، البروليتاريتا، المارينز، الفوارق الطبقية، عصا كهربائية، عناصر جهاز الأمن، الانفلات الأمني، ديجورينيكي/حارسة البوابة، مطار شريميتيفو الدولي، أصوات الراجمات، أوبشجيتي/السكن الطلابي الداخلي، شارع الحسين بعمّان، محل شاورما جبري، مطار الملكة علياء)، وعبَّرت المستويات اللغوية من لغة سرد وحوار ووصف عن مجريات الأحداث بطريقة رشيقة وقلم واعد.

ميسلون فاخر، صحافية تعمل بقناة الجزيرة الوثائقية، ما أضفى على لغتها سلاسة وعذوبة، وأبعدها عن الإيغال في اللغة المتكلّفة لصالح اللغة البيضاء، وروايتها "صلصال امرأتين" تأتي بعد عملها الأول "رائحة الكافور"، وتسعى لتقديم المجتمع العراقي بصورته الواقعية، وينم أسلوبها الإبداعي عن منجم روائي ننتظر قابل كنوزه.