دورة الوجد تكذّب دورة الفصول

07 سبتمبر 2014
ثلاث رباعيات، كمال بُلاطه / فلسطين
+ الخط -

اِفْتِراضَات

لِنَفترضْ
وِلادَةً بلاَ مَخاضٍ
تاريخاً بِكْراً
الْهواءَ مُجدَّدا بِأكملِهِ
الْمُحيطاتِ وقَدْ طُهِّرت إِلى أَعماقِهَا
ماءَ النَّبعِ
بِمُفردِه يُزوِّدنَا
بِالْقُوت وَالمعْرفَةِ
النَّارَ مَزروعَةً
تَهَبُنا النَّبيذَ
وإكْسيرَ الطُّفولَة
الرِّيحَ المُواتِيةَ
تَحمِل منْ رَحابةِ الْبحرِ
التَّناغُم الْعارفَ
الْمُشْرفَ علَى الْخَلقِ
حَيواناتٍ طليقةً
ميَّالةً للْجَمالِ
تَرعَى الْأنواعَ النَّادرةَ

لِنَفترِضْ
مَثوىً جَديداً
لِلّغة والفكْرِ

لِنفترِضْ
مَا يَأمَلُه كلُّ امْرئٍ
في قَرارَةِ نفسِهِ :
حياةً بديلَةً
حَيث يَختارُ فِيها بحُرِّيةٍ
وَالِديْهِ
مكانَ وتَاريخَ وِلادتِهِ
اِسمَهُ وكُنيتَهُ
صوتَهُ
لغتَهُ أوْ لُغاتِهِ الْحميمَةَ
دِينَه إنْ لَزِم الأمْرُ
عشقَهُ الأوحَدَ أوِ المتعدِّدَ
لونَ أَفكارِه
معاركَهُ المدروسَةَ برَويَّة
منزِلَه بشجرتِهِ الوَاقيَة
تَيهَه ودروبَ حجِّهِ
الكُتبَ
المُوسيقَى
واللَّوحاتِ
اللاَّئقةِ بمواهِبِه الخَاصَّة
ولِمَ لا
بعضَ أَسرارٍ
لاَ تُؤذِي أحَداً
مِثْل صِنْوٍ حَميمٍ
يَأتمِنهُ علَى أَسرارِهِ
دونَ أنْ يَخشَى الْفضحَ
أوِ الْخيانَةَ
بعضَ التَّفاهاتِ
للتَّمَيزِ عنِ العامَّةِ
كالضَّحكِ
ممَّا لاَ يَبعثُ علىَ ذلكَ ظاهِريًّا
أوِ البكاءِ
وقْتَ الاِحتفالِ

لِنفترِضْ
حياةً
نَختلقُهَا بِحُرية
مِن ألِفها إلى يائها


لِنفترِضْ
المرأَةَ والرجُلَ
وقدْ شُفيا مِن الخَوفِ
والخُضوعِ
ليسَ لهمَا ما يَبْتَاعَانه
أوْ يَبِيعَانه
مُتحرِّريْن مِن الامتلاك
عاشقَينِ علىَ الدَّوامِ
فانيَينِ علىَ الدَّوامِ

لنفترِضْ حياةً
دونَ قاعاتِ انْتظارٍ
لاَ حسْرَةَ بعدهَا
ولاَ ندمَ
حكايةً نتناقلُهَا
منذُ البداياتِ
وكلُّ واحدٍ يؤثِّثهَا
ويؤوِّلهَا
علىَ شاكلَتِه

لنفترِضْ
حَلْقةً مُحدَثةً
منْ سِفْر التَّكوينِ
تنكشِفُ فيهَا
قارةً جديدةٌ
حيثُ سيُدرِكُ فيهَا أخيراً
منْ هُمْ أوْفَرُ حظاًّ منَّا
الفَصْلَ المَفقودَ

هُناكَ
ستكونُ اليوتُوبْيَا
مُطمئِنّةً علىَ حالِهَا
ومَا بين الواقِعِ والحُلُم
ستكُونُ آمادٌ معقولَةٌ
وأكيداً ستَمْتدُّ جُسورٌ

لنْ يكونَ العيشُ
أمراً نافِلاً
لنْ ننامَ إلاَّ بالعينِ
الخارجيَّةِ للقلبِ
ولن نقتاتَ إلاَّ
علىَ الخيالِ
الخالِصِ واللاَّخالِصِ
دونَ مُقبِّلاتٍ أوْ أطباقٍ مُصاحِبةٍ

سنحلُمُ دائماً
ولكنْ بشكْلٍ أشْسَعَ
كأنْ نسكُنِ الكونَ كلَّه
دونَ حاجةٍ للتّنقّلِ
كأنْ نتفاوضَ فِي معاهدَةِ سلاَمٍ
مُنْصِفةٍ
معَ عناصرِ الطبيعَةِ المُهتاجَةِ
كأَنْ نُدخِلَ
مبدأَ الحبِّ
فِي ديباجَةِ
الدُّستورِ العالَمِي


سنُلغِي
عددا مُواتيا
منَ العذاباتِ غيرِ المعقولَةِ
ولاَ نَحتفِظُ إلاَّ
بالّتي تُذْكي الْيقظَةَ
والسؤَالَ
والسعْيَ وراءَ أنوارِ مُحْتَملَة
وغيرِ مُحتمَلة

سنرعَى
مثلمَا نرعَى بُؤْبُؤينَا
كلَّ قطرةِ ماءٍ
كلَّ حبّةِ رملٍ
كلَّ ذرَّة هواءٍ
وأقرَبَ مِنّا
كلَّ ما هوَ هشٌّ
مُتلعثِمٌ
زائِل
ومَا تَرسًبَ
في باطِنِ الرّوحِ
منْ شعورٍ بالوحدَةِ
والخوف

الموْتُ الموجعُ
المُذِلُّ
سيُخلِي المكانَ
لِأُفولٍ رصينٍ
نقِيّ
يتفهَّمُ الجميعُ
أسْبابَهُ
ويُحيِّي أَناقتَه

لنفترِضْ ما يصعُبُ بُلوغُه
وقدْ صارَ في المُتناوَلِ
والْغريزةَ القويّةَ
ومَيْزةَ العبقريّ
اللّتينِ ستجعلانِنَا نمُدُّ اليدَ إليْه
لاَ لكيْ نداعبَه
مِثلما فِي حلُمٍ
بلْ لنُحكِمَ الْقبضةَ
عَليهِ

لنفترِضْ
هَذي المُغامَرة الخارقَةَ
منْ جديدٍ
تنطلقُ عاليَا



حَلَقاتُ الدَّهْشة

مَا هَذا الظِّل الْمَطَّاطيُّ للغايَةِ واللَّعُوب الذِي يَتْبَعنا، يسْبِقنا، يَمْشي إِلى جانِبِنا، وَالَّذي نُعايِنُه تَارةً بِتَسَلٍّ، وأُخْرى بِذُعرٍ؟ هلْ هُو نُسْخة مُسْتَوحاةٌ مِن جسَدِنا أمْ مَلَكةٌ من ملَكاتِه لَم نتَمَكنْ مِن تَشْغيلِها بَعْدُ؟
أَحْياناً تُلِحُّ الرَّغبةُ بِالتَّصرُّف كمَا في حِكايَةِ ألْف ليلةٍ وليْلةٍ: أخْذُ هذا الجِنيّ الخَبِيث بالْحِيلةِ، وإِيداعِهِ في القُمْقمِ الّذي خَرجَ منْه، لسَجْنِه فيهِ من جَديدٍ، ثمّ الرَّميِ بالقُمْقم في الْبَحرِ.
من فَضْلكمْ، يَا فيزِيائِيِّي النُّور، لا تُحاوِلوا إِبْطالَ السِّحرِ!


مَا هَذا الصَّوْت الّذي يُكَلّمنا مِن الدَّاخِل، هَذا السَّيدُ الْواعِظ الّذي لاَ يَغْفِر لَنا كبيرَةً أَو صَغيرَةً، لاَ التَّردُّد ولاَ الضُّعْف، ولاَ الاِنْتِهاك؟ هَذا المُدافِعُ عنِ التَّحفُّظ، عنِ الحَلِّ الوَسَط، الّذي لاَ يَنظُر بِعَين الْأَسفِ كَونَنَا مَخْصِيِّين حَقيقةً وَمَجازاً. هَذا المُحنَّك فِي التَّناقُض الّذي يَرْمينا بِالْعارِ فَوْر امْتِثالِنا لتَعْليماتِه. وَبعْد أَن نتلَعْثمَ ثُم نتكلَّمَ أَخيراً بصَوْت مُرتفِعٍ وَواضحٍ، هَا يتْرُكُنا أَمامَ قدَرِنا فنَجِد أنفُسَنا أَكثرَ حيْرةً حِيَال تقْنِيِّي الْكَلام الْعُدوانِيِّين، الَّذينَ هَزَموهُ بنَفْس أَسْلِحته.


ما هَذا الْمسْرَح الطّلْقُ حيثُ نَتَمرَّن كلّ يومٍ على مَسْرحيةٍ ضارِبَة فِي الْقِدَم، لا مَعْرفةَ لنا بنَصِّها أَو بِكاتِبِها، "مُوَجَّهين" من طَرَف مُخْرجٍ خَفِي، شَرِسٍ كَما يَبْدو مِن خِلالِ صَوْته الّذي يَأْتينا مُتقطِّعا من تَحْت الْخَشبة؟ ونحْن، الدُّمى الْمَساكينَ، الْمُتغطْرسينَ، نَظُن أنَّنا نُشارِك في عمَل فَنِّي مَزْعوم، مُفتخِرينَ بِتَوْصيل رِسالةٍ إِلى الْجُمهور الْغَفيرِ الّذي وَعَدونا إِيَّاه بِشَكْل مُبْهم.
وَحين نَنْتبِه، مُرغَمِين، إِلى أنَّ الْأمْر يَتعلَّق بمَسْرحٍ مَدى الْحياةِ، يَكُون قدْ فاتَ الْأَوان.


مَا هذه اللُّغة بِكَلماتِها النَّادرَةِ، برَنَّاتها الْغَريبةِ، بفِخاخِ نحْوِها، بِصُعوبة تَصْريفِها، بمُثنَّاها أَو جمْعِها، بتَصْغيراتِها الْمُضحِكة، بكُرْهِها ولَذاذَتِها، بنَقاوتِها الْمَشبوهَة، بنَسَبها الْمُتعالي، الّتي يَلزَمنا أنْ نُحِبها فَوق كُلّ شيءٍ، والّتي علَيْنا أنْ نَخْتلق لها أَعْداء، ونُشَيِّدَ لها مَعْبداً ونَكُون خَوادِمَها الْمُتواضعِين؟ بِمَ هْيَ أسْمى من شَدْو الطّير، من عَزيفِ الرّيح، من جَلْجلة القَفْرِ، من كَلام الشَّجَر الرَّصينِ، من عُبابِ وسَنَا النُّجوم الخابِية؟
أحْياناً، نَكْتب قَسْرا، دون مَراعاةِ بَلاغةٍ أُخرى، بَلاغةِ الصّمْت.


ما هذا الصَّوتُ، صوْتُ مِياهٍ جَوْفيّة جارِيةٍ، هذا الّذي يَخُرُّ في الرَّأس، تَكلَّمْنا أمْ صمَتْنا، سُعداءَ كنّا أوْ تُعَساء، نُمارِس الْحُب أو نُحتَضَر، نُسافِر إلى أَقاصي الْعالمِ أوْ مُطْبَقاً علَينا في زَنْزانةِ سِجْن؟ هلْ هو آتٍ مِن خارجِنا قَبْل أنْ يَجعلَنا ضاجِّين منَ الدَّاخلِ؟ هلْ له علاقَةٌ ما بِنَهْرِ الزَّمن المَشْهور؟ هلْ هو ضَرْب من الموسيقَى الْخَلْفِية لِحكايةٍ تُروى لنا ولاَ نَلْتقِط منها سِوى شَذَرات؟ هل عَيْن قَابِيل لها دَخْل في هَذا؟ ثُم، أَوَ لاحظْتُم، لا أَحَد يتجَرَّأ على أنْ يُفاتِح الآخرَ بِهذا الْأَمر، ما عَدَى الْحَمقى والْأَنبيَاء وبَعْض الْعُشاق النَّادِرين.
فِي الرَّأسِ، صوْتُ هذَا الْماءِ الْجَوفي الْجارِي، يُصبِحُ أَقوى حينَ نعْترِفُ به لأَنْفُسنا.


ما هذا الْحُلُم الّذي نَعرِفه جيِّدا ولَسْنا قادِرينَ على إِعادَةِ تَشْكيل حبْكتِه، أوْ نَقْلِ أَدنى لَقْطة منْه مُتماسِكة، باستِثْناء بَعْض الصُّوَر، وبعْض الْجُملِ الْمُنفرِدة، نُحاولُ يائِسِين إيجادَ مَعْنى لَها؟ ورغْمَ كلّ هذا نُصِرّ، مُتَطيِّرين أوْ غيْرَ مُتطيِّرين، على الْعُثور فيهَا عَمَّا نَأمَلُه رِسالَة : قُمْ بهذا وَدَعْ ذاك. اِرحَلْ بَعيداً، غيْرَ بَعيدٍ. عُدْ أَدراجَك وَقِسِ الْمسافَة دُون أنْ تُخْطئ. اُترُكْ نِهائِيا شيْئا ما(أيُّ شيْء بالتَّحْديد؟). اِبحَثْ عنِ الْمِفتاح، في كِتابٍ ما، في صفْحةٍ من صَفَحاته (دُون أيِّ تَدْقيق). تعَلَّمِ اسْتخدامَ سِلاحٍ ما (أَبْيض أمْ أسْودَ أمْ رَماديًّا؟). اِقصِدْ مَقْبرة ما وقِفْ على قَبْر واضِحِ الْمَعالِم (بِأيِّ عَلامةٍ؟)، ولا تَنْسَ أنْ تَأخذَ معَك تِيناً مُجفَّفا وماءَ الْوَرد. اِصعدْ إلى رأْس الشّجرةِ (نَخلةٌ أمْ أَرْكانةٌ أمْ دُلْبٌ؟)، وانْتظرْ هُناك. تَرقَّبْ، وَاسْهَرْ إلى أنْ يَتَبيّن النُّور. تَعَرَّ في ظلامِ اللّيل أَمامَ البحْر وتمدَّدْ على الرمْل، وَوجْهك مُوَلَّى مِثلما تَهوَى نحْو الشّرْق أوْ نحْو الْغَرب، وَاتْلُ قبْل السّاعة المَعْلومة دُعاءً أوْ قَصيدةً مِنِ اخْتياركَ. لا تَخْشَ شيْئا، ستَمرُّ الأُمورُ بخيْر.
ما هذا الحُلُم المَأْلوفُ لدَيْنا والْغريبُ عنَّا فِي آن؟ هذِه الْبابُ الْموصَدةُ ونحْن نَتَرجّى أَمامهَا، ولاَ نسْتطيعُ أنْ نرْفعَ المِقْرَعَةَ وَنَطرُق وَنطْرُقَ بشِدّةٍ، مُحْدِثين جَلَبَةً تُوقِظ الْموْتى؟


مَا هذِه الْقارَّة الّتي يَتَحدّث عنْها الْجَميع، والّتي نَصِفُها بِإفراطٍ، ونُعَمِّرها كلٌّ حسَب هَواهُ، ونُحدِّد موْقِعها في مَكانٍ ما فِي السَّماواتِ، في مَرْكز الْأَرضِ، في أَعماقِ الْمُحيطاتِ، في رُكْنٍ منَ الصّحراءِ أوْ من الْأَدغالِ لمْ يُكتشَفْ بعدُ؟
وإلَّمْ تكُن سوى خَياليَّة، فَهل هِي خَاليَّة منْ كلّ واقِعٍ، ماضٍ أوْ مُستقبَل؟ لماذا لاَ نَتعرَّف بالْخَيال الْخَالصِ على مَا نَعتَرفُ به طَوْعا لِلْمعمارِيِّين، وللمهَنْدسينَ، ولِلْبُناة؟ لقدْ حُلَّتْ بعْض أَلغازِ الْأَهرام ولكِن لمْ يُفكّ سرُّها بَعدُ، إنّها ما تَزال هُنا، مُنتهَكةً حُرمَتها ومَصُونةً، مَلموسَةً وخَياليَّة. هِي منْ هذا العالَم مثْلَما هْي ليسَت مِنه. الّذين صمَّمُوها كانُوا بشَراً وشيْئا آخرَ غيرَ البشَرِ.
القارَّة الّتي يَتحدَّث عنْها الْجَميع حَيَّة في دَواخِلِنا. أمَّا ما سيَحدُث لهَا بَعدَنا، فَتِلك حِكايةٌ أُخْرى، ولاَ أَحد منَّا سيَبْقى لِسَرْدها.



رَسائِل

منذُ تَلاقِينا الجديدِ
- بعد افتراقٍ طويلٍ -
لمْ أعُد أَكتبُ إليكِ رسائلَ بالمرَّة
إلاَّ في مُناسباتٍ نادرة
والأَسوأُ منْ هذا
أنَّها ليْست مَخطوطَة
إذِ اهْتدينا إلَى البريدِ الإِلكترونيّ
وطبعاً
في هذا المجالِ
تَردِّين بالمِثل
وها كمَا ترَين
أحسُّ أنَّنا ضيَّعنا في الحبِّ
شيئاً ما، ضيَّعناه إلى الأَبد.
غريبٌ كيفَ تُعبِّرُ
الرَّسائل بحق
عَمَّا يستحيلُ
إيصالُه بالكلاَم
اللِّسان بأعجوبةٍ تَنْحَلُّ عُقدته
ويُحكِم سُلطته على اللُّغة
بكلِّ حيثياتها ولطائِف تَعبيرها
النَّحْوُ يصيرُ متشدِّدا
التَّركيب يستعيدُ إيقاعاتِه الحاذِقة
والشِّعر
الّذي بِلَمسةٍ منْ جناحهِ الحريريّ
يُعيد الحياةَ إلى مِرْقَن الكلِمات
يُصبح في الْمُتناول.
إذَّاك
يأتِي الاِعترافُ دون إِكْراه
وحتَّى المبالغاتُ تَبدو مُجدِية
لأنَّ البُعدَ يخفِّف من وطأتِها
فإنْ قُلتُ لك، في أسفلِ الصَّفحة :
أُهديكِ يدِي
فظنِّي أنَّ هذا أكثرُ تأثيراً
منْ حينَ، جنباً لجنبٍ
أمدُّ يدِي إلى يدِك
وآخذُها دون تَرَوّ.
أرأيتِ
أشتاقُ الآن إلى رسائلِكِ
وهذه القَصيدة ليْست سِوى حيلَة
لكيْ أتقرَّب من سجيَّة
زمَنِ الرسائل



كانَ زمنُ
الحبِّ المَمْنوع
اختفاءِ السَّماء
غيابِ الفصُول.
حينَها
كنتُ أكتبُ إليك
أمامَ الباب المُوصَدة
و"عينِها المَعدنيّة"
على تُكأة منَ الكَرْتون
أضعُها بين ركبتَيَّ
مُرتجفا من البرْد
مَحموماً من الدَّاخل.
كنتُ أتحدَّى الواقِع
والخيالَ
كنتُ أُسَوِّد الورقةَ
إلى أنْ تظهرينَ أمامي
وبِعصاكِ السِّحرية
تُوَارِينني
لأجدَ نفْسي
بعيداً في الزَّمكان
كما فِي هذا اليوْم
جالساً هنا
أمامَ نافذتِي المُشرَعة
على الرَّبيع
- وليس أيَّ ربيع -
أُخَرْبِشُ
فيما أنتِ
في الغرفةِ المجاورةِ
تَرْعَين عن قُرب
ما يَتَزاحم في رأْسي
في فَمِي
يجرِي من أَصابِعي
فرحاً بالنَّجاة
فرحاً بالقوْل جهراً
وبالكِتابة
لألقاكِ
أيْنما كنتِ
أينما كنتُ
فرحاً باستِعادة
روحِ وحرفِ
رسائلنا القدِيمة

كانَ الزَّمن قاسيًّا معنا
آمالاً مجنونَة كانتْ
تُحطَّمُ للتو
نفقاً طويلاً كان
يُفضي
إلى متاهةٍ في الهواءِ الطَّلق :
السَّيد المَنفى.
كتُرْغُلَّتيْن
فرَّقتهما العاصِفة
استمرَرْنا في السَّجع
دونَما مَلل
ومع عودةِ الانْفراجِ
أعَدنا بناءَ عشِّنا
بكثيرِ العِناية
تحَمَّلنا
لأنَّ الأملَ رغم جُنونه
لمْ يُفارقنا أبدَا
وها نحْن اليومَ
نوشِك أن نُباركَ
الزَّمن القاسِيَ ذاك
منهُ
عرفْنا كلَّ شيءٍ
عنْ هُويتنا الحقيقِيَة
عنْ لماذا نَحلُم
ولمنْ
عن معنَى المُغامرة الإِنسَانية
عنْ ملْحَمتها المَأْساوية
وعجيبِ إنجازاتِها.
بُورِك الزَّمن ذاك
على الحيٍّزِ الّذي منَحَنا إيَاه
لكيْ نشهدَ له
ونتمسَّك
بالحياةِ
في زَهوٍ
ونعُضَّ عليْها بالنَّواجذ



قريباً نِصفُ قَرْنٍ

[مقطع]

قريباً
نِصفُ قرنٍ
منذ التَّكليلِ الوثنِيِّ
العَجائبيّ
لِقِرانِنا
الّذي كُلَّما تذكَّرته
ذُهلتُ من جَديد
ولكنْ ليس أكثرَ منِ أولَئِك الّذين
دونَ قصدٍ يَحدثُ أنْ نبوحَ لهم
بما لمْ يعُد سِرّا
وإذا بهِم يَندهشونَ
يَحارونَ بيْن الشّكّ
والإعجابِ المُصطنَع شيئاً ما
ويُجهَدون في إِخفاء
بعضِ الحسَد
أو شُبهة حقدٍ
وكأنَّهم يَبحثون
في قِران الكائنَيْن العجائبيَّيْن هَذَا
عنِ الخَلل
عنِ الحلَقة الضَّعيفة
عن العيبِ الخفيّ
عمّا يُشابِه
الفظِيع

قريباً
نصفُ قرنٍ
ولكيْ أُحيلَ إلى ما كتَبتُه سابقاً
أقولُ:
إنَّنا نكادُ
نُولَدُ للحُب

يَبقى بيننَا
هذا الحياءُ
ورغْم أنَّه يَخِفُّ مع العُمر
فبعضُ الشَّباب المزهوِّ
يُريد أنْ يَرانا نلتزِمُه حرْفِيّا
وكأنَّ غرامياتِنا الصَّاخبة قبْلاً
وحدَها مُبَاحة
وغرامياتِنا الحالِية
تُهدِّد غرامياتِهم
فِي شَيء

دَورةُ الوَجْدِ
تُكذِّب دورةَ الفُصول.


* قصائد مختارة من مجموعتي "الفصل الخامس" و"حب جَكَراندا"، الصادرتين مؤخراً عن دار الإختلاف في باريس.
ترجمة عن الفرنسية: جمال خيري 

المساهمون