حلّاباتُ الغيم

حلّاباتُ الغيم

27 اغسطس 2015
يا حلابة الغيم، يا ندبَ الفصول كلها (Getty)
+ الخط -
(فتنةُ) شاهدةُ العيان لموتٍ طويلٍ كسنينِ الجوع وهي الرسولة بظلها وبنتُ القرى القريبة من النجوم وهي وضوحُ نجمة (الجنوب) في شمال الشرق، قالَها الرجل الذي دارت به الأرض، فداخت الأرض وداخَ من ثقل روحه!


تُميزُ فتنةُ بالفطرةِ بين حجر خامل وخرز كريم، بينَ عشبةٍ سامةٍ وأخرىَ تَصنعُ سحراً أبيضَ، وهي سليلةُ الغبار المبجّل، لايضيرها أنىَّ هبّت الريح وأنىّ وجهتُها، تَصرُّ نباتاتٍ عطريةً وحشائشَ جافة وقلب الذئب ولسان الثعلب وكبد بنات آوى في طوقٍ، يتدّلى من عنقها، من جوانيةِ الثياب الداخلية على صدرها، يأخذ ممشى العرق الصيفي بين النهدين، تختلطُ رائحة الأعشاب ونباتات الصحراء برائحة الجسد الحار/ جسدها والملمّع تحتَ شمس تخبزُ المكائدَ، لعلَّ الشمس كانت ناراً قبل أن تكون نوراً، ربّما كانت ومازالت ناراً، وماهذه النيران المستعرة بيننا إلا قليلٌ منها، أنضَجتِ النهدَ والبَشرة والرغبةَ، حتىَ استوىَ اللحم والكلام والبرونز في ميزان واحد، هو ميزان الشقاء والشقاوة.

أستاف هذه الحديقة الصحراويةِ، لعلَّ نشيداً يشتعل هنا أو هناك، فأطمئنُ بما تبقىَّ لي، أحرثُ في الفجيعةِ لتلتقي عيني بعيونِ الضحايا، أتناسلُ كحيوانات برية فلتت من عقرب الصيادين وتصويباتهم، وكطيور اعتادتِ الفخاخ ولم تهلك بها، وكبازٍ كمموا عينه قبل قلبهِ فمات إذا أبصرَ الأرض، ولم يبصر السماء وأطراف جناحيه، وأجدُّ في البحث عني في كومةِ الذكريات، فيلسعني البردُ والدبوس والدبور والأفعى والكذبة، والأنثى ذات حب، قالت لي: لاتتوضأ في عيني، لاتشرب خمراً بالقرب من شفاهي، ولاتأكل ماتشتهي إذا حضرتُ إليك ووهبتك بعض جسدي، وقالت: كُل رائحتي، اقضم تفاحةَ شهوتي، ولاتتركني مرميةً، هَب أنيَّ الكتاب فتّصفحني، ولم أفعل، ورحتُ أكتبُ مايشبهُ الرثاء، بكاءً..بكاءً، خطوةً للأمام نحو أغنيتي عن حبٍ يموتُ قبل ميلاده، وخطوة للخلف لأستأثرَ بالحنين/ زاد الرحلة الجديدة في سلمِ الهلاك.

تركتُ القرى نائمةً، شيّدتُ ليلاً مثلَ ليلها في المدينة الكبيرة، علقتُ قفلاً على جسرِها ورميتَ المفتاحَ للماء، حبلت الأسماك بعدَ أشهر بمفتاحٍ يحمل ملامحي، نفس العينين، الجبهة ذاتها، القوام، السحنة البرونز، الشعر الطويل، والسن المكسورة من ركلةٍ قديمة، وحتى تميمة فتنة بما حَوَت من حديقة الحيوان والنبات والكتابة، أمّا الصديق الذي مرَّ بهِ النهر حاملَ طفلي الحديدي، قال لي: سمعتُ قصيدةً وأنةً طويلةً، حاولت اصطيادَ الكلام آنذاكَ، فعلقَ بها بلد كامل يبكي، ولم تكُ القصيدةُ وحدَها، لأجرّها، لقد تركتُ سنارتي للنهرِ وعدتُ بما وهبتني الأنّةُ الطويلةُ من الجسارةِ لأذرفَ أمام أطفالي، ما أحسبُهُ نشيداً!

يا حلابةَ الغيم، يا ندبَ الفصول كلها، ويا ندّابةُ، جئتكِ عارياً، حتى أنيَّ خلعتُ ظلي -أنا رجل بلا ظل وسعيدٌ بهيئتي- لأكونَ ابنا جديداً، قوامهُ قوام المعدنِ، ياحلاّبةَ الغيم، يا رهجَ الضحكةِ في الفلوات، ماعادتِ الأجسادُ القديمةُ، تفي هذهِ الأرض حقّها، ثمةَ عطشٌ للدمِ أكثر، والماءُ كالنارِ تُطهّرُ.

حِثّي السماء لتنزلَ، والشياطين لتفعل، فتغوي، والأنبياء لتكونَ سدنةَ الأخلاق، والجبال لتأوي، والبسيطةَ للنوم، والطوفان لنصنعَ الفلكَ، والليلَ لنمحو آثارَ ظلالنا عن ظهيرةِ البارحة، واليومَ لنقتل أمسَنا، فنَنسىَ، نحنُ القتلةُ الصغار، لانغمدُ سكيننا في أحدٍ غريب، نغمدُ سكيننا في أحدِنا القريب، ونلحسُ الدمَ عن النصل، نتدّربُ لنكونَ قتلةَ المستقبل، الأشدّاء، الأوفياءُ للعادةِ: اقتل اليوم لتنسىَ من قتلتَ البارحة. بهذهِ القاعدةِ الذهبية ياحلابةَ الغيم، سأدخلُ خدركِ.

مرّ زمن طويل جداً/ جداً على آخر مرة، رافقتُ الحلابات إلى موضع النعاج، لم أنظر في السماء فوقي، لأرىَ الغيمة الدائمة من عصرٍ مضى، تمشي فوق رؤوسنا خفيفة، حتى إذا نزلت استأذنت الإناث/ الحلابات، وأعطتهنَّ مايبلل نهودهنَّ والخام الخفيف فوقها، فتختلط رائحةُ التراب برائحةِ الثدي، الذي لم ينز حليباً بعد، كنتُ ابناً للريحِ وقتها، دراجةٌ هوائية حصتي، وأمامي ساحرتي غيمتي، تعجنُ المطر الخفيف بالحلمات. كنَّ الحلابات يرجعنّ بأوعيةِ الحليب مبللات وطافحات بالضحك، وحدهنَّ كنَّ الأشجارُ ويمشين على قدمين، وكنت أرجعُ بالمشهدِ بساتيناً تتراكض، محملات بأسباب الخصوبةِ من المطرِ إلى التراب إلى الأنثى فالثدي فالحليب، إلى الصوت الذي لاينفك يصيحُ بالغيمة لتكونَ. لم تكن النسوةُ آنذاك حلاباتُ النعاج فحسب، كنَّ حلاباتُ الغيم، وكنا نحن الرجال -والصغار منا- نتبعُ الغواية إلى آخرِ الوادي الذي لايذهبُ بعيداً في الأعماق، إنما يطفو كسراب على وجهِ الخيال.

في الليل أوقظ التلال، أشعلُ برأسها النار، وألوّحُ لبيتي الطيني من علٍ تلويحتي الأخيرة -أدّعي أني أودّعُ- أتنفسُ ماتنفثهُ المدافئ المتأججة بالروث، يتماهىَ الدخان بالضوء، وتتماهىَ أغنيتي مع أصواتِ الكلاب، مكان عال ولا أحدَ قالَ: أنَّ الطوفانَ قادم، فاجمع كلَّ أهلكَ وخيلهم وكلابهم ومؤونتهم. ليتَ أنيَّ صدقتُ الجنيات في جوفِ التل، ولم أبقَ في نومي الطويل في سرير الحلابةِ، ياحلابةُ ويا ندابةُ ويارهجَ الذهب، ماذا تقولينَ وقد جاءَ الماءُ من كل حدب وصوب وحكاية، واختفىَ البابلي الذي قالَ سأعدُّ الفلك فتنجو، ثمَّ أيُّ الجبالَ نيممُ حلمنا فلا يغرَق ولايهرِق دمنا إذا سالَ علىَ صخرةِ النزوحِ الكبير!. مرةً أخرى حينَ يحقُّ وعدُ الهجرة، سأبترُ ذراعي، كيلا ألوّحَ. التلويحة/ دلالةَ الخذلان، والحنين الذي شربَ دمي ولم يرتو!

تمتدُ الأرض أمامي كمساكبَ مزروعة بالأفاعي، تنفخُ فيها ريحٌ عجوزٌ، فتتلوى الأرضُ وتميدُ بي وبكلِ أهلها، لا فروقَ بين الملك وسائس الخيول، أو بين قديس وتاجر خمور أو بين جندي وأمير حرب، سوى أنني أسأل عن تلكَ الغيمة الخفيفةِ لأدللها، وإذا ماتأكدَّ الطوفانُ سأقولُ للحلابة تلك: عليكِ بالغيمة، ربيها في صدرك، لتكبرَ، غداً إذا أجدبت ستقولُ كلمةً طيبةً فينا، وربما.. ربما لن نغرقَ جميعاً.

لكني لا أحظىَ بحلابة الغيم -هل ضاعت الفرصة وضاقت الحيلة أكثر من العبارة، فاتسعت حتى صارت والغيمة واحداً ؟!- أصيح ياربَّ الغيوم والعموم والسفنِ والبحار التي تأكلُ المهاجرين، فأظفرُ بتلاطمِ الأمواجِ ونَدب الناجين وعنانة القدر وشحوب البلدان ونوبةِ الفطرة وصدفةِ الزراعيات في الحقول، حيثُ الفزاعاتُ سدنةُ ماتبقىَّ من طوفانٍ مرَّ من هنا، ومن ثمَّ أجدبَت الأرض، وبارت كامرأة أرملة.

تحققتِ النبوءاتُ وأنا لستُ نبياً، إنما في غياب الدواب سائقُ دراجة هوائية، أراد تَسلُقَ الغيمة، فانعطبَ قلبهُ قبلَ دولابه عندَ أولِ النهايات.

*(الجنوب) إشارة إلى جنوب الرد في شمال شرق سورية، منطقة منكوبة بشح السموات والسلطات.


(سورية)

دلالات