تونس المريضة تتداوى بالبكاء... شهادة عن إيقافي في "بوشوشة"

تونس المريضة تتداوى بالبكاء... شهادة عن إيقافي في "بوشوشة"

09 ابريل 2020
+ الخط -
"ابك كالنساء على وطن لم تحافظ عليه كالرجال"، كلام يعبق بذكورية القرن الـ15 الميلادي، لكنه يعبر عن اللحظة الراهنة أشد تعبير، لأنه من السياقات الإسلامية التي ينتمي لها وزير الصحة عبد اللطيف المكي، البكاء حتى لا نسرف في التجريح فنقول المتباكي!

ولأن اللحظة أكبر من دمع الوزراء والرؤساء كما النواب، فلن نغوص في تاريخ البكائيين ومآلات بكائياتهم لأننا سنندفع إلى ثنايا نتائج الدمع.

لحظات ما قبل الدموع شهدت تجمعات بشرية مخيفة إبان أيام توزيع المنح والمساعدات الاجتماعية التي أقرتها الدولة، أنهت كل منجز في الوقاية من فيروس كورونا. خلل سبقته عدة ثغرات وأهمها فشل السلطة في توفير حاجيات من لا دخل لهم ولا تعويضات تشملهم في ظل الحجر الصحي، ستصعد إلى السطح مآس ربما لن يقدر أحد درء صدعها.

أغلب ساكني البلاد لا تتوفر بيوتهم على عدد غرف يتماثل وعدد أفرادهم. لن نطيل في هذا التفصيل، لأن أصل المرض كامن في وزارة شقيقة هي وزارة الداخلية التي ربما تكون الحليف الرئيس لهذا الوباء!


فيما يلي شهادتي عن ليلة أمضيتها في معتقل "بوشوشة" بتونس العاصمة:

حين يتحول الأمن من ساهر على منع التجمع، لخالق للتجمعات بعد السادسة مساءً، أي لحظة انطلاق حظر التجول، يقتحم بيوت الناس تحت طائلة قانون الطوارئ ودون الحاجة لإذن من وكيل الجمهورية ويحاول اعتقال أحد أفراد عائلتك.

هنا يتجمهر كل أفرادها ويحاولون الوقوف دون إيقاف ابنهم. بعد الاحتكاك الأولي بين عائلة وأعوان الأمن، نمر للصعود في الكامبي أكثر من 16 فرداً تتلامس الأكتاف والركب ولا تبعد الأنوف عن الأنوف إلا بضعة مليمترات، منها إلى مركز شرطة "الكباريه" حيث تتفاعل الناس في مساحة ضيقة ويتبادلون السجائر والولاعات مع الكراسي من ثم أقلام الإمضاء والرقم قد يصل الخمسين مستجوباً أو يزيد.

المرحلة التالية تعني ركوب سيارات مع أعوان متراصين والتوجه نحو "بوشوشة"، هناك وبعد التفتيش، تحمل غطاء يقال إنه معقم وتفترش جراري، لم يتحدث أحد عن أمر تعقيمها. منها تمر للحظة قدوم نزلاء جدد، لكل لحظة ورحلة إشعال السجائر من ولاعة وحيدة وتبادل السجائر، والشرب من زجاجة ماء واحدة.

أخيراً يبلغ عدد الموقوفين في غرفة مساحتها 8 أمتار على 4 أمتار ما يجاوز الأربعين، وتلتقي الأقدام بالأنوف، من ولايات تونس الكبرى الأربع تواجدنا في غرفة واحدة، دون أدنى إجراء وقائي، ولو كان قياس درجة الحرارة.

هناك في نفس غرفتي رجل مضنون في إصابته بفيروس كورونا، وسبب إيقافه مغادرة مقر حجره الصحي. غادر مقر حجره الصحي فرمت به قواتنا الأمنية وسط الموقوفين. 520 موقوفاً في ليلة واحدة يحملون أغطيتهم وفراشيهم إلى خزائنها، لتوضع كما هي ويقال للقادمين في الليلة اللاحقة أنها معقمة مع عدم نسيان التصادم والاحتكاك المتواصلين.

تأتي لحظة الخروج "للارية" وقتها يجلس الجميع على السدة الطويلة متلاصقين، إلى أن يأتي الفطور على الساعة الحادية عشرة، ويشترك كل الموقوفين في 6 علب حليب، ويأمرنا الناظر بالشرب مع بعضنا.. هكذا نختتم درس الوقاية المقدم من وزارة الداخلية.

أخير نركب "الكامبي" في اتجاه المحكمة رفقة أناس آخرين لا نعرف عنهم شيئاً، متراصين متزاحمين. بعد أن صدر حكم القاضي.. عدنا جميعنا لديارنا محملين بأمراضنا التي لا أحد يدري ما هي.. مع كلمة القاضي "رانا خايفين عليكم"!

عندما تنتبه أن كل الذي حدث بسبب خرق حظر التجول بدقائق معدودة، وأن هذا الحظر يهدف للتقليل من تقارب الناس والتقليص في عدد الإصابات بكورونا، سيكون عليك إحصاء إصابات وزارة الداخلية المتعمدة على حدة.

يخبرنا أعوان الأمن في مراكز الإيقاف أن بكاء السيد وزير الصحة كان حافزاً لتحركهم هذا بغية إنقاذ الوطن. هكذا يقولونها ولا أفهمها إلا إذا كانوا يتحدثون عن وطن آخر أو ممارسات أخرى.
42ACCD04-4C2E-46D0-9BBA-43B220EF9F7D
محمد علي بو علاق

كاتب وحاصل على شهادة الماجيستير في الإعلامية، طالب سنة أولى ماجستير صحافة متعددة المنصات. لي رواية بصدد النشر. وناشط بالمجتمع المدني.