بين ريتا وعيونهم بلطة

05 مايو 2015

أصبحت رسائل داعش موجهة للأطفال العرب (Getty)

+ الخط -

على أي شيء تهوي سيوف "داعش" وأخواتها؟ على الرؤوس التي حان قطافها قبل أوانها، أم على ضمة ورد كانت في طريقها إلى يد الحبيبة، قبل أن يباغتها السيف، أم على تأملات عاشق كان يحلم أن يشاطر حبيبته كوخاً على البحر، قبل أن تدهمه تسونامي الدماء؟

أسئلة كثيرة يقطعها السيف الناشب في أعناق الضحايا، ولا أجد مفراً من الاستعانة بمحمود درويش الذي خاض الحرب والحب بقلب عاشق، حين جعل البندقية فاصلاً باهتاً بينه وبين ريتا اليهودية التي ظل يحبها، حرباً وسلماً، مهما استطالت المجزرة.

بمثل هذا التمزق الإنساني، استطاع درويش أن يؤنسن الحروب، ويضفي عليها خيال فارسٍ لا يمضي إلى الحرب، قبل أن يقطف وردة لحبيبته التي سيعاركها بعد قليل؛ فهي حبيبة الشاعر، قبل أن تكون خصم الفارس.

تمنيت لو قرأ كل "داعشي" ومحارب جديد من هؤلاء المحاربين الذين يتناسلون في الكهوف قصيدة درويش "بين ريتا وعيوني بندقية"، قبل أن يجزوا أعناق ضحاياهم بمثل هذه الوحشية القذرة، لكان تغير الكثير ربما، خصوصاً وأنهم لا يحاربون يهودياً، بل عربياً من بني لحيتهم.

حقاً أتساءل، هل كان لأي داعشي حبيبة، قبل أن يتجلبب بكل هذا السواد والحقد؟ وكيف ودّعها قبل أن يقرر الخوض في هذه الشراسة المجردة من كل حس عاطفي أو إنساني، وهل ما يزال يتذكرها، وهو يخوّض في مستنقعات الدماء التي سفكها؟ ولو حدث العكس فكان هو الضحية، هل سيتذكّر قصيدة الفارس العاشق عنترة، وهو يقبل الرماح التي لمعت كبارق ثغر عبلة، قبل أن تغوص في لحمه؟ أو ربما يكتب قصيدة خاصة به، قوامها "بين حريمي وعيوني بلطة"، مع فارق أن البلطة تهوي على رؤوس حريمه قبل ضحاياه.

أراهن أنهم يعرفون ماذا يقطعون بالضبط، هؤلاء "الدواعش" وأقرانهم، كما يدركون جيداً ماذا يحصدون من مجازرهم الجماعية، وهم يسددون رصاصهم نحو أجساد ضحاياهم، فهؤلاء ليسوا مغفلين، كما يعتقد بعضنا، ربما لأنهم نتاج تلاقح غريب بين أنظمة عربيةٍ، قررت أن ترفع منسوب الرعب في روع شعوبها، ليعاودوا التمسك بها على قاعدة "أهون الشرين"، وبين إمبريالية وجدت في "الدواعش" ضالتها، لقطع الصلة بين الشعوب العربية ومخزونها الجمالي برمته.

على ذلك، السيوف المجردة والمدافع المسددة، بيد "داعش" ومن يشد على يدها من أنظمة مستبدة وحضارات حقوق إنسان، لا تتقصد الأعناق فقط، بل تتجاوزها إلى رموزنا الحضارية التي أقنعتنا أن في وسع العربي أن يكون فارسا شريفاً في أوج المجزرة، يحمل الوردة بيد والبندقية بالأخرى، ويتوق للحياة قدر توقه للدفاع عن مبادئه.

المقصود أن تقطع هذه الفؤوس والسيوف والأنصال قصائد درويش ونزار وعنترة، ولوحات فائق حسن ونصب حرية جواد سليم، الهدف أن يمزق العاشق رسالة الحب التي كتبها بدموعه، لأنه اكتشف أن الحياة العربية لا تحتمل الحب، وأن يغلق الفنان مرسمه، لأن المتلقي لم يعد يقنع بغير اللون الأحمر.

المطلوب "تجثيث" العالم في عيون العربي، من خلال سيل الجثث الذي يتلقاه يومياً على فضائياته ومواقع تواصله الاجتماعي، خصوصاً لدى النشء الجديد، لجعل مشاهد الذبح وجزّ الرؤوس مشاهد مألوفة في حياته، أكثر من مشاهد "افتح يا سمسم"، و"البجعة الحزينة"، وليصل، في النهاية، إلى قناعات مؤداها أن التاريخ والحاضر والمستقبل العربي، كلها مجرد جثة لا مكان للجمال والفن والشعر والموسيقى فيها، وسيكون مثل هذا النشء أكثر قابلية للتخلف والنكوص الحضاريين، بل وقابلاً للدفاع عن هذا اليقين المشوه الذي يعده فروسية شريفة. وعندها، لن نقوى على حصر عدد الرؤوس المقطوعة في حاراتنا وشوارعنا لأتفه الأسباب. ولهذا تحديداً، بدأ "الدواعش" باستخدام الأطفال في إعدام ضحاياهم، لأن الرسالة، هذه المرة، موجهة للأطفال العرب.

حذار، إذاً، من هذه السيوف التي تقطع، إلى جانب رؤوس ضحاياها، رؤوسنا نحن المتفرجين على تجفيف أحلامنا وقصائدنا وجدائل حبيباتنا، وتوقنا الطويل لحرية، كلما خلنا أننا أمسكناها، قطعها علينا سيف جديد.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.