المناضل الفلسطيني نمر مرقس

01 مايو 2015

نمر مرقس (1930-2013)

+ الخط -

قابلت نمر مرقس مرات عديدة في بيته، وكأن بيته، بحديقته الواسعة التي زرعها بيديه، ورعاها وقلّمها وسقاها بالماء وعصارة الروح، كان وطنه، وربما حلمه الشيوعيّ البريء، كما الطفولة. كان يسكن في قريته، كفر ياسيف، وظل فيها إلى أن رحل، بعد أن صار عصيّاً على ساقيه وعينيه الوصول إلى أشجار الزيتون، التي كان يفخر بها، وبثمارها في حديقة الدار العامرة ببناته وأحفاده.

معرفتي بأمل مرقس، ابنته، قادتني إليه عام 2000، وكنت سعيداً بلقاء هذا المربي والمناضل الفلسطيني، عضو الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي يشبه، في قامته وشاربيه وطريقة تصفيف شعره، جوزيف ستالين. أحببت نمر مرقس، وكنت أرغب، كلما تمكنت من الوصول إلى كفر ياسيف، في أن التقي به، وكنا مختلفين، وازدادت خلافاتنا، كلما حكينا عن الثورات العربية، فنمر مرقس الذي أمضى عمراً طويلاً في الحزب الشيوعي الإسرائيلي لم يتزحزح عن أفكاره الشيوعية الكلاسيكية، على الرغم من الصعوبات التي خبرها الشيوعيون الفلسطينيون في إسرائيل، لجهة علاقتهم بالمحيط العربي، وأحزابه الشيوعية، أو فصائله اليسارية الفلسطينية، التي تأسست في ظلال الأنظمة القومية العربية.

أتذكر، في بداية السبعينيات، أن فصائل اليسار الفلسطيني لم تصل، بسهولة، إلى تطبيع العلاقة الوطنية مع شيوعيي الداخل الفلسطينيين، بسبب طبيعة الحزب الذي ينتمون إليه وتسميته، أي الحزب الشيوعي الإسرائيلي "راكاح"، وبسبب التركيبة السيكولوجية للفلسطينيين التي تميزها بارانويا حادة، وريبة متضخمة، وشك في الآخر الذي لا ينتمي إلى الجماعة، شكلاً ومضموناً.

ولطالما كنت أحاول تفسير موقف صديقي الشيوعي، نمر مرقس، من الثورات العربية، وموقفه المتعاطف مع ما يسمى محور الممانعة والمقاومة، وإعجابه بحزب الله، تفسيراً سيكولوجياً وليس إيديولوجياً، وهو تفسير أراه ينطبق على موقف فلسطينيين كثيرين في فلسطين الـ 1948، فكيف لشيوعيّ، تقدمي في حياته وعلاقاته العائلية ونظرته إلى المضطهدين في العالم، أن يكون مع حزب أصولي، ونظام استبدادي كنظام بشار الأسد، غير أن الفلسطيني في الداخل الذي يعيش تحت احتلال استيطاني، لدولة قوية بقدراتها العسكرية ومؤسساتها الديمقراطية وتطورها العلمي والتكنولوجي في الزراعة والصناعة والعلوم، يشعر بعجزه الخاص، فرداً وجماعة، في عيشه في ظلال هذه الدولة، ويدرك ضعفه في المواجهة معها. وبالتالي، يشعر أنه يمكن له أن يغضّ النظر عن سلبيات، ويتسامح حتى مع وحشية تلك الأنظمة القومية العربية التي تزعم مواجهةً للدولة القاهرة له، وتحتل أرضه وخياراته، وتنمو في اللاوعي عنده رغبة دفينة في الانتصار على دولة الاحتلال ذات الجبروت، من خلال تلك الأنظمة، أو الأحزاب الأصولية، كحزب الله. لا بل كيف يمكننا أن نفهم دعم الشيوعيين الفلسطينيين في إسرائيل لحزب الله، وهو حزب مذهبي مرتبط إيديولوجياً بولاية الفقيه، ويعتمد على الفقه الديني. وبالتالي، لا يرى في رفاقهم الإسرائيليين اليهود من أعضاء الحزب الشيوعي ملائكة يهوداً، يدعمون زوال إسرائيل، الشيطان الأصغر؟ لم يكن يعنيني في نمر مرقس هذا كله، بل انتماؤه إلى حديقته العائلية، وأشجاره التي رأيته يعتني بها، كما يعتني ببناته وأحفاده. كانت أمل، ابنته، قد طلبت مني، في زيارتي الأخيرة له في بيته، أن لا أفصح كثيراً عن آرائي السياسية، فهو كان مريضاً، ويحمل لي محبة، لم تشأ أن يفسدها النقاش. كان ذلك اللقاء الأخير بيننا قبيل رحيله الذي أحزنني، وقد سألني عن "أهلنا" في الشتات ومأساتهم التي تجرح فؤاده جرحاً عميقاً.

عندما كنت أزور نمر مرقس في بيته، كانت ترحب بي أشجار الزيتون والتين واللوز والبرتقال والورد والزنزلخت الذي رغم مرارة ثماره كان يمنح ظلاً للبيت وسكانه، ولي ولروح محمود درويش، الذي كان نمر مرقس معلمه الأول في مدرسة "دير الأسد"، وهو الذي علم الشاعر الأسماء والحروف كلها.

8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.