المثقف الرحال

المثقف الرحال

10 ابريل 2018
+ الخط -
ما موقع المثقف اليوم؟ ما موقعه في علاقة الدولة بالمجتمع والمنظومة بالفاعلين؟ هل للمثقف أن يكون مع أم ضد؟ أم عليه، أن يعلنها حركة مزدوجة بينية، من حيث هو رحال؟
سبق لجورج بوش الابن في إحدى خطاباته الشهيرة، عن الحرب التي شنتها بلاده على العراق، بغض النظر عن مبرراتها الواهية، أن قال: "إما أن تكونوا معي أو ضدي". صحيح أن هذا الشعار رفع في وجه المجتمع الدولي، فيما يخص مواقف دول العالم من احتلال العراق، سواء بحجة أسلحة الدمار الشامل أو بحجة الإصلاح بإسقاط سلطوية صدام حسين، وغيرها من الحجج المصطنعة التي تعبر عن إرادة الهيمنة والتغلب ليس إلا. لكن ما علاقة ذلك الشعار بالمثقف؟
العلاقة هنا لا تكمن في سياق ذلك الخطاب فحسب، بل أساسا فيما تقوم عليه بنيته المنطقية، وثنائيته الميتافيزيقية. إنه الشعار نفسه الذي يُرفع مرارا في وجه المثقف.
قد تتبدل قضية المع والضد، كما هو الشأن في قضية الحرب الأميركية على العراق مقارنة بقضية المثقف، لكنها تحافظ على المنطق الداخلي نفسه لثنائية المع/ الضد، مثل كل الثنائيات الميتافيزيقية. وبناء على هذا المنطق، إما أن يكون المثقف يكون مع أو ضد، ليس له أي اختيار آخر.
لهذه الثنائية مفعولها الخاص، حيث تعمل على جرّ المثقف إلى ميدانها الخاص، إلى صلب الصراع الاجتماعي والسياسي. فهي بذلك لا تنفك تذكره بحيوانيته السياسية والاجتماعية، ككائن سياسي واجتماعي بالدرجة الأولى. إذ تعمل على تجرّده من تجريده وترفعه، بل من وساطته وحياده. هكذا نجدها تدعو الأنتلجنسيا إلى الانخراط في مجال تداولها، فالمثقف إما أن يكون أصوليا أو حداثيا، ليبراليا أو اشتراكيا، ثوريا أو معتدلا (فمحافظا)، يمينيا أو يساريا. باختصار، إما أن يكون مع أو ضد، فمجرد أن يعلن عن انتمائه وولائه، يدخل في خانة المع التي تصنف ضدا له، مع هذا وضد ذاك.
لعل الديناميات الاجتماعية التي شهدتها المجتمعات العربية أخيرا، أو ما سمّي الربيع العربي، من حيث تعدد الفعاليات المجتمعية والسياسية والثقافية (الفسيفسائية) المساهمة فيها، كفيلة بأن تقذف بثنائيتنا تلك في العدم.
لم يقتصر الحراك، على صوت أو صوتين، اتجاه أو اتجاهين ، إيديولوجيا أو إيديولوجيتين، الواحدة ضد الأخرى، بل عرفت الشوارع، وشهدت الساحات كل الأصوات والاتجاهات والإيديولوجيات: حضور الشعب. وفي هذا السياق، يمكننا أيضا أن نستحضر المشهد السياسي المغربي الحالي، بعد حراك 20 فبراير المساوق للربيع، وما تولد عنه من إصلاحات مُشهرة، خصوصا الحكومة الحالية وما تلمسه من فسيفسائية في تشكيلتها التي تولّف بين المع والضد، بين الأصوليين، حزب العدالة والتنمية، وبين الحداثيين، ليبراليين منهم واشتراكيين، يمينين ويساريين، وإن كان الطابع التركيبي من صميم السلطة السياسية في المغرب، مركزية كانت أم هامشية، قبل الحراك العربي، من أجل أن نبين ونتبين التداخل والتمفصل الحاصل بين العبارتين المعنيتين.
مجال السياسة بما يقوم عليه من مصلحة ومنفعة يجعل من الصعوبة بمكان التسليم بالوفاء الدائم للحليف والعداء المستمر للخصم. فصديق اليوم كان عدوا بالأمس القريب، وقد يصير عدو الغد. لا يكفي أن ننظر إلى السياسة من زاوية الصدق، فأي سياسة لا تخلو من الكذب، إن لم نقل أن تاريخ السياسة هو تاريخ الكذب نفسه، ذلك التاريخ الذي لم يعد يخفي كذبه ويحجبه، بل صار يكذب متعريا، أصبح كذبا صادقا، وبالتالي فمن كان مع قد ينقلب إلى ضد، والعكس صحيح.
إذن، ليس هناك مع مجردة من أية ضد، كما لا وجود لضد مجرد من مع معينة. على هذا النحو، على المثقف أن يعلنها حركة مزدوجة فيما بين النعم واللا، الإثبات والنفي، التأكيد والمعارضة، الداخل والخارج، المركز والهامش، بين المع والضد، و إن هو انزلق ، فلينزلق مع الضد وضد المع.
الموقع الطبيعي للمثقف هو أن لا يكون له موقع طبيعي، فموقع المثقف في الهامش؛ هامش كل موقع يقدم أو يقدم نفسه كموقع، يمينيا كان أو يساريا، دولتيا أو مجتمعيا، مركزيا أو هامشيا. بهذا يكون المثقف مهاجرا في عمرانه ومغتربا في عقر داره، ومتحركا في سكونه، فلا يكون للمثقف موقعا مخصوصا إلا باعتباره رحالا: المثقف اليوم لا يمكن أن يكون إلا رحالة.
D69BE6B6-08CF-4BC3-9D76-D55F1E1E6798
D69BE6B6-08CF-4BC3-9D76-D55F1E1E6798
عثمان لكعشمي (المغرب)
عثمان لكعشمي (المغرب)