المتحف البريطاني: النهب والمعرفة

المتحف البريطاني: النهب والمعرفة

01 يونيو 2015
آثار يونانية في المتحف البريطاني (أورين هارفي/Getty)
+ الخط -

تعود الإضرابات إلى بريطانيا مع بدء عمل حكومة حزب المحافظين الجديدة، وستطال، هذه المرة، قطاعات ثقافية، كالمتاحف، وفي فترة مهمة في عملها. فالصيف على الأبواب، والمدارس، من بريطانيا وخارجها، تدرج رحلاتٍ لطلابها الى أبرز هذه المتاحف، مثل متحف التاريخ الطبيعي، متحف العلوم، المتحف البريطاني، غاليري تيت الكلاسيكي والحديث، فضلاً عن أن زوار لندن لا ينقطعون أصلاً بصرف النظر عن الفصل. أما لماذا يضرب عمال وموظفو هذا القطاع، فالأمر يتعلق، كالعادة، بما يطالب به الذين يقومون بإضرابات عمالية: زيادة الأجور، تحسين شروط العمل، والتقاعد. وهو حق تقرَّه لهم قوانين البلاد التي ناضلوا، على مدار قرون، لجعلها أقل جوراً، من دون أن يفلحوا، قط، في ردم الهوّة الطبقية.
واسطة عقد هذه المتاحف والغاليريات هو "المتحف البريطاني" الذي يضم نحو 8 ملايين "قطعة" من كل أنحاء العالم، ويعتبر الأكثر استقطاباً للزوار بين سائر المتاحف اللندنية، إذ يبلغ عدد الذين يقصدون موقعه في وسط لندن، نحو سبعة ملايين زائر سنوياً، ولا يقتصر نشاطه على عرض ما يحويه من كنوز أثرية بل يشهد، الى ذلك، برمجة نشطة للمعارض والندوات طوال العام.

المتحف البريطاني

في عام 1753 تبرّع الطبيب وعالِم الطبيعيات وهاوي التحف الفنية، السير هانز سالون، بمقتنياته التي تبلغ نحو 71 ألف قطعة إلى الملك جورج الثاني بشرطين: أن تُحفظ من بعده، وأن ينال ورثته، مقابلها، 20 ألف جنيه استرليني. قبل الملك هذا الكنز المعرفي والفني والطبيعي الذي يتكون من كتب ومخطوطات ولوحات وعملات وعيّنات طبيعية (حيوانية ونباتية). وأصدر البرلمان البريطاني في ذلك العام قراراً بتأسيس "المتحف البريطاني" الذي أضاف إليه الملك جورج الثاني، بعد أربعة أعوام، المكتبة الملكية القديمة لإنجلترا، وسُنَّت، في الأثناء، قوانين النشر وحقوق الملكية الفكرية، وبذلك يكون المتحف البريطاني أول متحف من نوعه في العالم، وأول من عُرِفَت معه حقوق النشر والملكية الفكرية.
يمكن اعتبار "المتحف البريطاني" مرآة للامبراطورية التي "لا تغرب عنها الشمس"، ففي تلك الفترة كانت السيطرة والنفوذ الاستعماري البريطانيان يمتدان من الهند إلى أميركا الشمالية، وهذا يعني تدفّق نوع من "المواد" غير المعهودة من قبل. ليست لوحات ولا تماثيل، فبيوتات النخبة التجارية البريطانية، فضلاً عن القصور الملكية وإقطاعيات النبلاء، كادت أن تكون معرضاً لهذه الأعمال الفنية وعلى صلة حثيثة بما يجري في ساحة الفنون التشكيلية الأوروبية. ما أتحدث عنه هنا هو آثار الشعوب التي كانت خاضعة للاستعمار البريطاني، بدءاً من أميركا الشمالية وكندا وصولاً الى الهند التي بدأ استعمارها من خلال شركة الهند الشرقية، قبل أن يتحوّل إلى احتلال عسكري.
تطوَّرَ المتحف البريطاني مع التوسع الاستعماري وبروز أنواع من العلوم التي "تدرس" الشعوب وتضعها في خانات وأنساق مثل الانثربولوجيا والاستشراق، وهي علوم رافقت الاستعمار حيناً ومهّدت له حيناً آخر. والحال، لا يمكن فهم مقتنيات المتحف البريطاني، و"تمثيلها" لثقافات وشعوب من دون معرفة ما حدث على جبهة الجامعة، والعلوم الإنسانية، التي سارت مع الاستعمار يداً بيد.
ولكي نعرف صلة المتحف البريطاني بالتوسع الاستعماري وصراع الامبراطورية على النفوذ مع قوى أوروبية أخرى على منطقتنا، يكفي أن نعلم أن أول مومياء مصرية وضعت في المتحف كان عام 1756، أي منذ تأسيس المتحف تقريباً. وسترث لندن لاحقاً "ممتلكات" نابليون بعد توقيع اتفاقية الاسكندرية بين لندن وباريس إثر هزيمة نابليون.

تقسيم الثقافات

أخضع المتحف البريطاني مقتنياته إلى أقسام وتسميات لا تتفق، في معظم الأحيان، مع ما تسمى به الشعوب والمناطق، التي تعود إليها مقتنياته، نفسها. وربما باستثناء القسم المصري القديم (الفرعوني)، فإن الأقسام التي تتعلّق بالعالم العربي تخضع إلى تسميات لا صلة لنا بها، غير أنها التصقت بنا حتى يومنا هذا، وصرنا نعرِّف أنفسنا انطلاقاً منها. فآثار ومقتنيات المنطقة التي تُعرف اليوم، عندنا، بالمشرق العربي، سُمّيت "الغرب الآسيوي"، أي غرب الصين والهند. ثم صارت تدعى "الشرق الأوسط" الذي يضم إلينا، إيران وتركيا وأقساماً من آسيا الوسطى (والآن، إسرائيل). أما المغرب العربي فهو يقع في قسم أفريقيا وأقيانوسيا والأميركيات.
يمكن بالطبع قراءة تقسيم مقتنيات المتحف البريطاني انطلاقاً من تصوّر الامبراطورية للعالم ووفقاً لنشوء "علوم" إنسانية لم تكن لتوجد لولا وجود الامبراطورية نفسها، مثل الانثربولوجيا والاستشراق، كما أشرت إلى ذلك آنفاً، ولكن هذا ليس المقام المناسب. سأكتفي هنا بالإشارة إلى بعض محتويات المتحف القادمة من مصر والسودان (وحدة واحدة في تقسيمات المتحف) والحضارات الرافدية والسورية.


الكنوز الآشورية

في العام 1850 وصل إلى المتحف البريطاني أول تمثال آشوري من موقع نمرود في شمال العراق (الذي دمرت داعش أجزاء منه)، وكان واحداً من الأسدين المجنحين العملاقين اللذين يحرسان مدخل قصر الملك آشورناصربال الثاني (الأسد الثاني في متحف المتروبولتيان في نيويورك!)، ثم توالت الحفريات التي قام بها منقبو المتحف في نينوى في شمال العراق حتى صار القسم الآشوري من أكبر أقسام المتحف لا ينافسه في الحجم وضخامة المعروضات سوى القسم المصري ـ السوداني.
ولأن مقتنيات حضارات ما بين النهرين من الضخامة بحيث تحتاج وقفة أطول وأعمق، سأكتفي بالحديث، سريعاً، عن "اكتشاف" أقدم عمل أدبي في العالم، وأول تصوّر للخلق والتكوين: ملحمة جلجامش. وهذا بفضل العامل، ثم مساعد الباحث في المتحف البريطاني، المهووس بالآشوريات، جورج سميث، الذي اكتشف من خلال تقليبه الألواح المسمارية الأكدية الموجودة في المتحف ما سماه حينها قصة الطوفان، السابقة كثيراً على نسختها التوراتية المقتبسة من "جلجامش"، وقام بترجمتها إلى الانجليزية.
آلهتنا وملوكنا وأيقوناتنا وكتبنا التي أهدت العالم الحرف والأبجدية محفوظة في درجة حرارة مناسبة أمام الزوار نهاراً، ثم تثوي إلى نومها ليلاً بعدما تطفأ الأضواء.. بعيداً عن سمائها الأولى التي تتصاعد فيها أدخنة الحرب.

المساهمون