الماجد عليش: عين غير مفتونة بمصر

13 ابريل 2015
محمد عبلة / مصر
+ الخط -

ينهي الكاتب السوداني، عبد الماجد عليش (1963)، روايته "سوداني في القاهرة"، الصادرة حديثاً عن "دار الثقافة الجديدة"، بمشهد يضع القارئ على جمر الشك في سير الأحداث الماضية، متسائلاً هل حدثت في الواقع أم هي هلوسات في الذهن الفصامي للراوي المصاب بجنون الارتياب؟ وكأن عليش يريد القول إن الواقع بشكله الحالي، فوضوي إلى حدٍّ لا يصلح معه أن يكون واقعاً، بل كابوساً.

تقع الرواية في 190 صفحة، يتحرك السرّد فيها على تخوم السيرة الذاتية، والتشويق، والتوثيق لجوانب غير مضاءة من التاريخ الاجتماعي السوداني، وهو ما ظلّ يميز أعمال صاحب "يوميات الدولة الإسلامية في السودان"، الذي يمنح نفسه، هذه المرة، أريحية رصد وتوثيق التحولات في المزاج الجنسي لدى السودانيين خلال حقب مختلفة، وصلة ذلك بتطور تجارة الجنس. وهو ما يعدّ دخولاً مباشراً إلى أكثر مناطق "المسكوت عنه" عتمةً في حياة السودانيين.

تبدأ الأحداث بسفر الراوي برفقة أخته المريضة من الخرطوم إلى القاهرة، في وقت صادف فوران أحداث ما بعد استيلاء العسكر على الحكم في مصر، وهبَّة سبتمبر (2013) الدموية في السودان؛ لكن ثمة رحلة أخرى موازية، تتكشف بالتوغل في الأحداث؛ رحلة يطل فيها القارئ من نوافذ علم النفس، والتاريخ، وعلم الاجتماع، على الجوهر القاسي للإنسان، الذي تعرِّيه المحكَّات، وتكشفه حدة التحولات.

فالراوي، الذي يصف نفسه بأن روحه "مصابة بجروح وندوب لا تبرأ"، مشغول في القاهرة بتحصيل متعته الجنسية، ومتورّط في عوالم شبكات تجارة الجنس هناك. لكنه يمنحنا، من خلال ألاعيب السرد وتداخل الذكريات مع الأحداث الآنية والمتخيَّلة، فرصة التلصّص على قسوة الإنسان المدينية المجرّدة، قبل أن يدخل بنا إلى دهاليز أكثر تخصيصاً، تتناول السمات الاجتماعية للسودانيين، يضيئها بنتفٍ من الدراسات التوثيقية والملاحظات التقريرية المستقاة من قصص وتجارب ذاتية في عالم تجارة الجنس.

في القاهرة، يمنحنا عليش نظرة إلى مصر بعين غير مفتونة بها. فعلى عكس أخت الراوي، التي تحاول خلق علاقات في الشارع المصري؛ نجد هذا الأخير يعلِّب المصريين في الصورة النمطية لـ"الفهلوي" والمخادع، في الوقت الذي تجتهد فيه الرواية لتبيان المخفي من "جبل جليد" علاقة السودانيين بالمصريين، التي تبدو في كثير من الأحيان مثل علاقة "أخوين لدودين" مضطرين للبقاء معاً رغم أنهما دائما الشجار.

إلا أن وجهة النظر التي يسوقها عليش في الرواية هي تلك التي تنتشر لدى جزء من النخبة السودانية المثقفة، أي احترام وجه مصر الأدبي، والإعراض عما سواه.

يمكن أن توصف روايات وقصص عليش بأنها "دراسات"، فهو راصد مثابر لأدق التفاصيل في الحراك الاجتماعي. ففي هذه الرواية، نجد تحليلاً للتحولات التي ضربت المجتمع، في السودان ومصر، عقب سيطرة الإسلاميين على الحكم في البلدين، وإن كانت تجربة السودان مختلفة من عدة أوجه. ففي حين وجد المصريون أنفسهم بين نيران الإسلاميين والعسكر، كان الإسلاميون هم العسكر في السودان.

وعلى الرغم من إفراد مساحة مقدّرة من الصفحات لملاحظات وتعليقات حول المزاج الجنسي وتغيُّر المفاهيم الجنسية في السودان؛ إلا أن مجرى السرد الرئيس لم يبتعد عن النزعة التحليلية للمؤلف أثناء انغماس الراوي في سوق الجنس المصري وخباياه. فنجده يربط بين التحولات الحادثة في مافيا الشقق والقوادة في مصر، والأزمة الاقتصادية بعد الثورة، وانعطافات الرأي العام المفاجئة والمتناقضة.

وعلى عكس التهكم الذي وسم سرد عليش في أعمال سابقة، ثمة قسوة ومباشرة تكتنف ملاحظات الراوي في هذا العمل، ما يشي - ربما - بيأس يعتري الكاتب تجاه مستقبل "الإنسانية"، نجد صداه في مشهد الختام.

المساهمون