العجوز الكاريبي

العجوز الكاريبي

22 ابريل 2019

(محمد العامري)

+ الخط -
ربما لن أراك مرة أخرى، أيها الرجل العجوز الذي كلما صادفته قرأتُ فيه شيئاً من سيرة الشاعر الكاريبي ديريك والكوت، صاحب الصوت الخاص في الشعر العالمي. أنت تمتلك ذات الوطن الأول والتجاعيد والابتسامة والنظرة الحالمة التي تفضحها مرارة حياةٍ لم تكن سعيدة هنا. ويبدو أنك وطأت أرض لندن، وأنت تحمل في داخلك كائناً حالماً من ذوي الفطرة الراسخة. ولكنك لا تعرف لأي سببٍ أتيت إلى هذه المدينة التي لم تكترث بك، وحين سألتك أجبتني بسؤال، لماذا قال والكوت "أحمل في داخلي الهولندي، الزنجي، الإنكليزي/ وأنا إما لا أحد/ أو أمةٌ بأكملها"؟ 
أغلب الظن أنك أممٌ بكاملها، أيها الرجل، بدليل أن أحفاد الإمبراطورية القديمة يعتبرونك لا أحد. لا غرابة في ذلك، إنه زمن بريكست الذي ظهرت فيه هشاشة النظام الإمبراطوري العتيق في طور شيخوخته الأخير. لا عزاء لأنك تعيش بين هؤلاء الأحفاد الذين لا جذور لهم خارج العوالم الافتراضية، ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي. وها أنت تعاين عن كثب مرحلةً بائسةً من تاريخ أوروبا الحائرة والضائعة بين الأمم، بعد أن بسطت إشعاعها الفكري والثقافي على الكون منذ عصر النهضة.
أنا على وشك أن أغادر الحي، وأنت تتقدم في العمر. خمس سنوات مرت، وأنا أراك جالساً (برجلين متربعتين إزاء ضوء النهار) كما يقول والكوت، كل مساء، عند الناصية بعد نهاية عملك في متجر سانزبري. وفي كل مرةٍ، كنت أحس بأنها ربما تكون ليلتلك الأخيرة. أنت متعب في نهاية نهار طويل، رغم أنك لم تقترب بعد من شراب قصب السكر الذي اعتدتَه في بلادك من أجل اتقاء الحرارة، وطرد الأرواح الشريرة كما يقول غابرييل غارسيا ماركيز في رواية "الحب في زمن الكوليرا".
عملك في سوبرماركت سانزبري هو أن تراقب المكان، كي لا يسطو أحد على بضاعةٍ ما، ولكنك تُمضي نهارك، وأنت تلاعب أطفال الزبائن وكلابهم، ويبدو أن المشرفين على السوبر ماركت استحسنوا هذا الدور لك، وأحبوه مع الوقت، حتى صار لصيقا بك وبالمكان، وجزءاً من هويتك التي تبحث عنها، فلا تعثر عليها في لندن، حين ينتهي عملك في الحادية عشرة ليلاً، ولا تجد أحداً بانتظارك في هذه المدينة التي أتيت إليها في الثمانينات، وبقيت تعيش على هامشها، ومع أنك بادلتها الحب فإنها بخلت عليك، ولم تتركك تحلم لترى الجانب الآخر من المرآة. بقيت متوجساً حيالها، كما أحس مواطنك والكوت تجاه نيويورك، وفضّل عليها الحياة في بوسطن. خاف من الضياع في نيويورك، ولكنه خشي من خيانة وطنه الأول أيضاً.
مع أنك تُلاعب الأطفال والكلاب على الدوام أمام "سانزبري"، ولكنك لا تبدو سعيداً. أنت طفل الفسيفساء القارية والوراثية في الكاريبي، يكسرك العالم الذي ينطوي على نفسه، ليعود إلى اللون الواحد.
تبرز شخصية الكائن الكاريبي في كتابات ماركيز، وديريك والكوت، مثل طائرٍ مسافرٍ بين الأقاليم والقارّات، يصنع عشه حين يحلو له المكان، ويستقر ما دام يقدر على التحليق بحرية. وما يجعل هذا الكائن حراً هو الشخصية المتعدّدة والمنفتحة على التلاقح مع الحضارات الأخرى.
في قصيدة "منتصف حياة أخرى"، يقول والكوت:
أبدأ هنا من جديد،
أبدأ حتى يصير هذا المحيط
كتاباً مغلقاً".
ستظل الشرفة مفتوحة ولن نغلق الكتاب. ستبقى أنت هنا، وسأسافر أنا. أنت الذي تلتصق بهذا المكان لا تريد أن تعود إلى هناك، وأنا الذي لم يعد لدي هناك لم يبق لي سوى السفر والرحيل. لا مستقرّ أيها المسافر الدائم: "سأغني عن ذلك الرجل لأن قصصه تسرنا" (والكوت).
1260BCD6-2D38-492A-AE27-67D63C5FC081
بشير البكر
شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد