الصورة تهيمن على التواصل البشري

الصورة تهيمن على التواصل البشري

08 مايو 2020
المعلومة تُتلقى بالصورة لا باللغة (إيمانويل كريماسكي/Getty)
+ الخط -


تتابع ملايين الأعين مليارات الشاشات التي تعرِض مليارات الصُوَر يومياً؛ تضاعف عدد المشتركين في منصتي "نتفليكس" و"ديزني بلاس" بملايين الاشتراكات الجديدة. تضاعف عدد متابعي أخبار التلفزيون، الطبية والسياسية المُصوّرة، عن فيروس كورونا المستجد. صار مُقدّم الأخبار يعمل واقفاً ليعرض على شاشة كبيرة صوراً عملاقة مقربة تعطي لكلامه مصداقية. يخطبُ الدعاة الدينيون بأجساد هائجة ليصدّقهم أتباعهم. يخطب السياسيون ارتجالاً كي لا تؤثّر قراءة الأوراق على طلاقة حركة أجسادهم. لكلّ هذا معنى. 

يُعرَف المعنى من الصورة. هكذا صارت الصورة مهيمنة على التواصل البشري. فمن يحلّل طوفان الصُوَر هذا؟ صورة الفيروس مثلاً: ما شكله؟ دائري ككرة قدم. للتعبير عن شرّه، تُرسم كرة حولها دبابيس تؤذي البشر. صورة مُتخيّلة لعدوانية كورونا. في بعض الرسوم، حَلّ الفيروس محل صخرة سيزيف. في أخرى، صار حجمه أكبر من حجم الكرة الأرضية. تتكرّر هذه الصورة في صحف كثيرة. 

فتحت العولمة البابَ لمعرفة ما يجري في أمكنة مختلفة دفعة واحدة. النتيجة: صبيب معلومات وصُوَر يصعب فرز دلالاته. يتطلّب التحليل المدرسي للصورة الإجابة على: منْ يَرى، وما موقعه؟ ماذا يَرى؟ كيف يفهم ويفسّر ما يرى؟ هذا لاستخراج 3 مستويات للصورة: المستوى التمثيلي (المكوّنات)، المستوى التواصلي (المُرسِل والمرسَل إليه)، المستوى الدلالي (المعنى). 

هنا قراءة لصُوَر من جغرافيات متباينة. ليُخبر الرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون شعبَه بتمديد الحجر، ألقى خطاباً بإخراج وتقطيع سينمائيين، يُقدِّمان بورتريه له. كادر كبير على الوجه. لا فراغ في الشاشة. الوجه السياسي يملأ العين. اقترب الزعيم من الكاميرا التي تمثّل عين الشعب. كادر كبير غيّبَ الديكور والمكان ويَدي الرئيس اللتين تتمّمان المعنى عادة. الصورة تُخبر قبل الكلام. الأمر خطر، لكن الزعيم قريب من عين الشعب التي تنوب عنها الكاميرا. 

(مارك بيازيكي/Getty) 
في صورة نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز"، يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب مُديراً ظهره لوسائل الإعلام، بعد الخطاب اليومي المُصوّر. الكاميرا في موقع أعلى منه. يظهر الزعيم الكبير كنقطة صغيرة. رئيس بعيد عن الكاميرا كأنّه مجرّد ذكرى. مشكوكٌ بأنْ يكون مُلتَقِط الصورة وناشرها من أنصاره. تلك حكاية الولايات المتحدة في زمن كورونا، في ظلّ حكم الرئيس التاجر. المهم التجارة، وبقاء البلد مفتوحاً للمستثمرين. دعْه يعمل، دعْه يمر. هذه لقطة لم تُلتقط صدفة. تمْوقع قنّاصُها باكراً، بانتظار التقاطها. تَشي الصورة، على المستوى التواصلي، بمقدّمات انصراف باكر من مركز المشهد. الخطابة في واد، والصورة في واد. دلالياً، يشعر المستمع بأنّ الرئيس الأميركي غير مُتّصل بالأرض التي يقف عليها. ستقتلعه الانتخابات الرئاسية المقبلة. 
لقطة أخرى من النوع نفسه لترامب (وِن مكنامي/Getty) 

صورة ثالثة تحاور سابقتها، نشرتها "العربي الجديد": الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما يُمسك بالمنبر، ويد المرشح الديمقراطي للبيت الأبيض جون بايدن على الكتف التي سيُعتَمد عليها لهزم ترامب. 

هل يُمكن فصل لغة الجسد عن لغة التواصل السياسي؟ كلا. الجسد معيارٌ للقياس والإحساس والتواصل. في الصورة لونان وعِرْقان يتوحّدان في وطن. الراية الأميركية في الخلفية، والمُقدّمة المنبر رمز الحكم. أين تتموْقع الكاميرا؟ في العلو نفسه للعين البشرية. 

(أوليفيير دولييري/Getty) 

يشاهد القارئ هذه الصور الثابتة في صحيفة، ويعتبر أنّه فهم المعنى من دون قراءة الخبر المُرْفق. المعلومة تُتلقى بالصورة لا باللغة. لكن، من دون إدراك تركيب الصورة ومكوّناتها، يتشرّب لاوعي المُشاهد معانيها الخفيّة حدسياً، من دون إدراك عقلي ونقدي. حالياً، هناك خلل رهيب بين كمية الصور المستهلَكة في الأخبار والأفلام، وكمية ما يُكتب من تحليل عن سيل الصور. ينطبق هذا على الصور الثابتة. أما الصُوَر المتتابعة، فالوضع معها أعقد، كما في أفلام تُعرض على الشاشة بمعدّل 24 صورة في الثانية، أي 1440 صورة في الدقيقة. المثل الرابع يقهر كلّ ما سبقه من صُوَر. 

هذه كثافة تغري العين في الصُوَر المتحرّكة، كما في "ميلاد نجمة" (2018) لبرادلي كوبر، ذي الدقائق الـ124 . بالأرقام: عدد مُشاهدي الأغنية المُصوّرة للفيلم 3 أضعاف عدد من شاهدها مُصوّرة على مسرح حفلة "أوسكار" (9 فبراير/ شباط 2020). في أغاني الـ "فيديو كليب"، تحضُر شعريّة اللون والنغمة، وتُخاطب العين لا الأذن بواسطة اللون والضوء وحركة الجسد. مغنّون كثيرون يستحيل الاستماع إليهم من دون مشاهدتهم، لأنّ قوّتهم في أجسادهم لا في أصواتهم.

واضحٌ أنّ التواصل المرئي حالياً يقهر التواصل اللغوي. ملايين يشاهدون أفلاماً ناطقة بغير لغتهم، ومن دون حوار مُترجَم، ويفهمون. رغم هذا، تركّز الصحافة على الكتاب مصدراً أساسياً للمعرفة. تنبع أهمية الكتاب من أولوية اللغة عند المثقفين المنشغلين ببلاغة عبد القاهر الجرجاني التي تقف عند الصورة بمعنى الاستعارة (تشبيهٌ حُذِف أحد طرفيه)، بينما يستهلك الجمهور بلاغة الصورة أساساً. في ظلّ هذا المعطى، لا معنى لتركيز وسائل الإعلام على كتاب قرأه 10 أفراد، وتجاهل فيديو شاهده مليون شخص في يوم واحد. 

حالياً، مع الحجر الصحي، أغلقت المكتبات، وتضاعف عدد مدمني صُوَر الشبكة العنكبوتية. هكذا أكّد كورونا التوجّه السابق، فالحجر لم يصنع مجتمعاً قارئاً فجأة. الدليل على خطورة الصُوَر والفيديوهات، الناجحة في خلق إثارة ساذجة، أن وزارة الداخلية في كل بلد صارت تراقب الشبكة العنكبوتية بحثاً عن "صُوَر مُضرّة بالأمن القومي".

في هذا الوضع، صار خبراء الشرطة أكثر حضوراً وانتباهاً لمدلول الصُوَر الرائجة من نقّاد الخطاب ومحلّليه الذين يشعرون أنّ طوفان الفيديوهات تجاوزهم. لذا، هناك حاجة ماسّة إلى تحليل يوازي كمّ الصُوَر الرائجة والمستهلَكة، لوصفها وتحليلها ونقدها، كي ينكشف سرّها وعنفها. 

المساهمون