الثورة وسؤال "داعش"

الثورة وسؤال "داعش"

11 مارس 2015
داعش، هي نتاج أزمتنا، وليست وافدة أو مستجدة(أ.ف.ب)
+ الخط -

لم تكن ثورتنا إجابة عن معضلة داعش وحسب، بل تبقى، في ظني، وحدها الإجابة. هذا اللون من العنف السياسي المتشح بالدين، بيوتوبياه المتوهمة ووعوده الخلاصية، لا يبعدنا عنه إلا مسار رسمته المبادئ التي طرحتها الثورة ونادت بها أفواه الثائرين في مياديننا. بشرت الثورة بإمكانية حقيقية لإعادة ترسيم العلاقة بين السلطة والمجتمع على نحو ينزع بذرة الاستبداد في ثقافتنا ونظامنا الاجتماعي التي تتغذى عليها داعش، لصالح تعزيز مشاركة واسعة تضبط بوصلة السياسات وحركة السلطة وفق الإرادة الشعبية.

استحضار "الشعب" لساحة السياسة يخلق المحضن المناوئ لداعش، ولم يكن لينجز معنى حضور الشعب إلا ما لخصته الميادين بصوتها الهادر في كلمات قليلة؛ عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية، ومسيرة جماهيرية زينت مسار الحرية بدم وعرق الثائرين. هذا المسار لم يطرح الديمقراطية أنموذجا لإدارة شؤون الدولة والمجتمع فحسب، بل رسم دور الدين في الحياة العامة على نحو جديد يؤكد أن الخلاص والاختيار العقيدي أمور فردية لا مجال فيها للقسر والإجبار، بمثل ما أن المسؤولية عن إنشاء المجتمع الديمقراطي الجديد مسؤولية لكل فرد، ولا تفوض حصرا لبطل متوهم أيا كان. هذا المدخل وحده لو لم تتعثر مسارات الحرية لرسم النهاية لسلطويات الزعامة والوطنية الزائفة وسلطة الكهنوت وتنظيماتها الماضوية.

اقتضت البشارة جيلا يدرك معنى الحياة وينخرط في عالمه بوعي وجسارة، ولا يخشى إحداث القطيعة مع أنماط التفكير والثقافة والسياسة ذات النزوع الاستبدادي. صوت الجيل الثائر نادى بعقد اجتماعي جديد قوامه الحقوق والحريات التي لا يحرم منها أي فرد، وبالمقدار والكيفية التي نراها في المجتمعات المتقدمة التي سبقتنا إلى وأد الاستبداد، ونزع شأفته. عمد الجيل الوثاب هذا في مسعاه إلى ترسيخ المعرفة الحرة وأساليب التفكير المنجزة لها، وجاء حراكه ليجمع الناس في حركة شعبية غير مسبوقة جاوزت تهاويم الهويات والطنطنات الشعبوية التي ظلت طويلا تؤجل آمال تغيير منظومة إدارة الدولة وتبقي تغولها على المجتمع.

أدرك الثائرون أنه لا سبيل لاستئصال شأفة الفكرة العنفية دون مد ساحة متسعة لتلاقي الأفكار والرؤى والمصالح، وتعزيز طاقة التغيير التي بمستطاعها حصار الفكرة المتشددة والحد من انتشارها. زرع تصور مغاير عن المستقبل، هو المسار الذي تبنوه لتحويل الوجهة عن الفكرة العنفية المسمومة وجذب الناس بعيدا عنها. فالأفكار البائسة التي تشكل وعي داعش، هي نتاج أزمتنا، وليست بحال وافدة أو مستجدة، هي صور مراوغة من ثقافة رسخت لدينا، ومن الغباء تصور إمكانية دفنها هكذا بقرار أو محوها ببساطة ولو حتى بالحرب. نقطة البداية المنطقية بإفراغ آثار التصورات الخلاصية والانتقامية والماضوية المتكلسة عبر تقديم البدائل الاستيعابية وتوفير فرص الممارسة السياسية المنضبطة بحكم القانون وقيم الديمقراطية والتحرر، وتحفيز الناس على الانخراط في الشؤون العامة، بعيدا عن غواية التشدد.

ولم يكن هذا من قبيل التصور المثالي، فمعضلة العنف الخلاصي واجهتها من قبلنا مجتمعات عدة، وعالج فلاسفة كبار سؤالها، خصوصا في كيفية الجمع بين الحرية والديمقراطية وأفكار الخلاص المتشددة. الضامن ظل مبادئ التسامح والتضامن وإثراء التنوع الذي يدفع بالتشدد لزاوية ضيقة بعيدة دون تفجره عنفا يهدد الدولة وبناءها الاجتماعي. وتحدد التعامل مع أفكار صنفت على أنها معادية للمجتمع ولنظامه ومناوئة للمتفق العام بين ناسه وفق مدى واسع من التدخلات، صحيح أن آخرها الاستئصال بقوة القانون، لكن أولها بخلق البدائل التي تحيل وجهة الناس عنها. بدائل تصدي بكلمات العدل والديمقراطية والحريات. وتتشح بمعنى التسامح بوصفه المؤسس والمبدأ الأصولي لبناء ديمقراطية معتبرة. وفي هذا يفرقون وبوضوح بين إنكار فكرة ما، وبين تجريمها، تفرقة تضع فاصلا بين السياسات الاجتماعية والثقافية التي تتغيا إقصاء الفكرة العنفية وتهميش تأثير حامليها على الناس، وبين النزوع الأمني إلى معاقبتهم وقمعهم. مبدأ التسامح وحكم القانون المجرم للأفعال لا الأفكار هو الميزان الذي يحدد متى تكون الحركة مجرمة، ومتى تعتبر خارجة عن مبادئ التعايش المعتبرة.

إن إنتاج أرضية للتسامح ضرورة تستوجب الولوج إلى ساحة جدل اجتماعي حقيقي، وحشد للتضامن بين قوى المجتمع دون قسر أو إجبار. وهو ما يعني في الأخير فتح المجال العام وفق مبادئ الديمقراطية ونظما لصون الحريات وإقرار العدالة الاجتماعية. وفي النهاية لا حاجة لنا لتوكيد أن حل معضلات التشدد شأن أكبر بكثير من الأمنيين، ويتخطى قدرات هذا الصنف من السياسيين من أصحاب النزوع الفاشي.


(مصر)

المساهمون