الاستشراق والاستبداد والسلطة البديلة

03 يناير 2017
+ الخط -
منذ النزعة العقلية الفلسفية التي دخلت في مواجهةٍ مع التفكير الأسطوري، وتزايد احتكاكه بالشرق، بدا الغرب نقيض الشرق ومتمماً له، واستمرّت روحانية الشرق مصدراً لعناصر ثقافية غريبة وإشكاليات معقدة. ومع القرن السابع الميلادي، ستظهر ملامح للشرق، تجعل منه تحدياً، أخذت معالمه، ثقافياً، دينياً وسياسياً، تتضح بعد اخترق العرب موحدين بالإسلام حدود شبه الجزيرة العربية، ليؤسّسوا دولةً توحّد فيها لأول مرة، منذ زمن الإسكندر المقدوني، الشرق والغرب، وحوض المتوسط الهيليني، والعالم الهندو - إيراني.
على الرغم من تأكيده على صلته بالتقاليد الدينية الشرقية، يهودية ومسيحية، "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَاب"، يقدّم الإسلام نفسه فصلاً أخيراً في تطور البشرية الروحي "وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ". بالتعميم المطلق للتوحيد اليهودي، ونفي أي إمكانٍ لتجسيد الطبيعة الإلهية، حطم الإسلام النظام البنيوي اللاهوتي اليهودي والمسيحي. لكن، حتى القرون الإسلامية الأولى، لم يشكل الإسلام في المؤلفات المسيحية لتلك الحقبة أكثر من "هرطقةٍ لقوم من البرابرة".
سيبلغ تكريس الإسلام تحدياً ثقافياً ودينياً ذروته مع الحملات الصليبية التي اتخذت في الضفة الأوروبية طابع حرب مقدّسة، بدت أوروبا حينها في مواجهة العالم الإسلامي وحدةً جغرافيةً عرقية وثقافية دينية. وعلى الرغم من المؤلفات الإسلامية حول الفرق والمذاهب والأديان (الشهرستاني، البغدادي، ابن حزم...)، اندفع المسلمون وراء شعورهم بالتفوق الديني واللغوي، واكتفوا بتصوراتهم العامة حول المسيحية (بصيغتها النصرانية) المستمدة من النص القرآني "ولا الضالين"، ويعتقدون (حتى اليوم) أنهم يفهمون كنه الأديان الكتابية السابقة، أكثر من أصحابها أنفسهم الذين حرّفوها عن أصولها وغاياتها. لذلك، لم تحمل مواجهات الرد على الحملات الصليبية، في حينها، أي طابع ديني، بل لم تتعدَّ، في العموم الغالب، أن تفهم على أنها صدامات حدودية.

مع قرار المجمع الكنسي في فينا رقم 11 للعام 1312، يبدأ الاستشراق رسمياً. قضى القرار بتدريس لغاتٍ شرقيةٍ في أربع جامعات أوروبية، كان الإسلام لبعض الأوساط الأكاديمية الآخر الذي ينبغي تعرّفه. وبعد تراجع اهتمامهم به، ما بين أواسط القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين، عاد الإسلام خصماً ينبغي فهمه لإدارة الصراع معه، كان العثمانيون يتقدّمون، وكان على الأوروبيين التحرّك.
اصطدم تطور العالم الإسلامي بسقف الروح المحافظ، والاقتصاد التقليدي القائم على فائض إنتاج زراعي. تقدمت أوروبا بفضل العلم والتقانة، واقتصاد فريد قائم على إعادة استثمار مستمر لرأس المال. ومع حملة نابليون بونابرت على مصر، زعزعت صدمة الحداثة لامبالاة العالم الإسلامي الذي بدأ يتعرف الطابع الاقتصادي والسياسي والحقوقي للغرب، مع ردود فعلٍ كثيرة.
بدعوى تخليص الشرق من بربريته، كان على النص الاستشراقي تمويه العسكري وفرض سلطته المعرفية، ليتطوّر الاستشراق من ميدانٍ بحثي لغوي عرقي وديني إلى حقيقةٍ محكومة بالظروف الثقافية والاقتصادية والسياسية التي ازدهرت في ظلها، ليحتل الشرق تلك المكانة الوضيعة، بوصفه موضوعاً للدراسة، وكرّس الاستشراق المتخلف عن حداثة عصره نفسه مؤسسة إمبريالية.
أدى التدخل الإمبريالي، في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، إلى تحويل الوضعية العربية إلى نسقٍ وظيفي متمم لاحتياجات المركز الإمبريالي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، ولم تعد آليات نمو المجتمعات العربية مرتهنةً فقط بقانونيتها الذاتية، بل كان للفعل الخارجي حضور فاعل. أطاح هذا التدخل الشامل البرجوازية العربية الوطنية، وكان فرض التبعية عليها، اقتصادياً وسياسياً، عامل إخفاق في إنجاز مهامها النهضوية. ومع صعود العسكرتاريا العربية، برز دور الطبقات الوسطى حوامل اجتماعية لحركة التحرّر العربية اليسارية، وبديلاً تاريخياً اجتماعياً للبرجوازية الوطنية.
لم تستكمل الدول العربية منذ الاستقلال نموها مؤسساتٍ مدنية ديمقراطية، ولم تكتسب شخصيةً فاعلةً سياسياً واقتصادياً، وبقيت تدرك مصالحها، لا بوصفها دولاً، بل مجموعة من الأفراد. أدّى تعدّد الأساليب الإنتاجية الاجتماعية التابعة وغير المتطورة إلى جعل المجتمع العربي ظاهرةً مضطربةً وغير مكتملة، حالت دون اكتسابه صيغة محدّدة وواضحة. ومع فشل مشاريع التنمية وسقوط الشعارات الأيديولوجية الكبرى، أدت سيطرة النمط الاستهلاكي إلى مزيدٍ من الاضطراب والتشويش في بنية المجتمع العربي، لا سيما مع هيمنة نمط مشوه وطفولي من أنماط الإنتاج الرأسمالي، لعب فيه التجار المتحالفون مع السلطة السياسة دوراً في بقاء الدولة الوطنية العربية دولة جباية لا دولة رعاية، لتمارس النخب الحاكمة دوراً كومبرادورياً. وجد الغرب الذي حرّكته المصالح لا القيم في استبداد أنظمة عربية، والحفاظ عليها، أداةً يستكمل بها إبقاء العالم العربي جيباً وظيفياً.
تزايدت الهوة بين الأغنياء والفقراء، ليطاح، هذه المرة، بالطبقة الوسطى، أما الطبقات الدنيا فلم تشكل بديلاً تاريخياً اجتماعياً، إذ طالما حوصرت في تجمعات وأقاليم مخترقة عشائرياً وطائفياً، ولم تتحوّل إلى تشكيلة اجتماعية اقتصادية متجانسة (هل كان ذلك عاملاً في إخفاق ثورتها السياسية الحالية المتمثلة في "الربيع العربي"؟).
جعل الاضطراب في الوضعية الاجتماعية العربية، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، المجتمع العربي موضوعاً مضطرباً للبحث السوسيولوجي. انعكس ذلك قلقاً في الأدوات البحثية المعرفية والمنهجية التي تناولت تلك الوضعية، ولا سيما أن المؤسسات الثقافية والبحثية العربية لم تكن
امتداداً جدلياً للمؤسسات الإنتاجية، توظف العلم قوةً إنتاجيةً مباشرةً، بل بقيت إطاراً شكلياً، خدم، من خلالها، مثقفون انساقوا وراء الشعارات الأيديولوجية مصالح النخب الحاكمة.
أنتجت المحاولات الفردية التي حاولت الإحاطة النظرية ببنية المجتمع العربي واتجاه نموه، وعلى الرغم من إسهاماتها الجادة في تفكيك مناهج الاستشراق (ربما منذ بندلي الجوزي) وفضح نظرة الغرب الجوهرانية ومعرفته النصّية (بتعبير إدوارد سعيد)، أنتجت تعميمات صحيحة في ذاتها، لكنها كانت قاصرة، لأنها ظلت دون اكتساب بعد مشخص محدّد على مجمل الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وفي غياب تاريخية المفاهيم الأساسية للنهوض والتقدّم، كان الفشل في تحقيق الرهان المعرفي المنهجي والسياسي، والإخفاق في إحلال سلطة بديلة لسلطتي الاستشراق والاستبداد.
لا تكفي اليوم ثورة سياسية (على الرغم من توفر مسوّغاتها بالمعيارين الإنساني والأخلاقي)، فانتقال المجتمع العربي (أو المجتمعات العربية) من كونه موضوعاً للاستبداد والاستشراق في آن معاً، ليصبح ذاتاً فاعلةً حضارياً، لا يزال مرهوناً بتوفر البديل التاريخي، وبالمنظومة المعرفية الفلسفية الذاتية التي تلقي بقيمها وأنماطها وأنساقها على الحركة الاجتماعية، وتمارس سلطتها عليها إجمالاً وتفصيلاً.

دلالات