اعتراف بدولة فلسطينية ناقص واقعياً ودولياً

11 أكتوبر 2014

وزير خارجية السويد في رام الله مع عباس (فبراير/2011/Getty)

+ الخط -

اعتراف السويد بدولة فلسطين خطوة مبدئية كبيرة وشجاعة، لكنه يطرح سؤالاً إشكالياً لم يحسم فلسطينياً ودولياً. عن أي دولة نتحدث؟

إعلان حكومة يسار الوسط السويدية الجديدة، بقيادة ستيفان لوفين، بأنها ستعترف بدولة فلسطين، من شأنه أن يحدث اختراقاً عملياً مهماً في المواقف التقليدية الرسمية الأوروبية إزاء القضية الفلسطينية والصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي، باعتباره الترجمة الأولى لـ"إعلان برلين"، الصادر عن القمة الأوروبية في مارس/ آذار 1999، والذي أكد على "حق الفلسطينيين الدائم وغير المشروط في تقرير المصير، بما في ذلك خيار الدولة..".

ويحسب للسويد تاريخياً أن مواقفها تجاه القضية الفلسطينية كانت الأكثر تقدماً بين المواقف الأوروبية الغربية، نذكر هنا، مثلاً، مسودة القرار الذي طرحه وزير الخارجية السويدي أمام وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، في ديسمبر/كانون أول 2009، حيث تضمنت المسودة "تأييد جعل القدس الشرقية المحتلة عاصمة للدولة الفلسطينية"، إلا أن الصيغة النهائية للقرار الذي تم اعتماده أوروبياً صبت باتجاه آخر، تماماً، حمالاً للأوجه، بالتأكيد على أن "الاتحاد الأوروبي لن يعترف بأي تغييرات لحدود ما قبل 1967، بما في ذلك ما يتعلق بالقدس، عدا التغييرات التي يتفق عليها الطرفان المعنيان". وهو ما شكَّل نزولاً عند الشروط الإسرائيلية والأميركية التي تصر على وضع ملف القدس الشرقية في خانة القضايا التفاوضية، ومرجعيتها المفاوضات المباشرة دون غيرها، أي ما يتفق عليه الطرفان، من دون أي اعتبار للقرارات الدولية ذات الصلة بالصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي.

وقد أوضح لوفين أن نية حكومته الاعتراف بدولة فلسطين يستند إلى مبدأ "حل الدولتين"، وفهم مفاده "الحل القائم على دولتين يتطلب اعترافاً متبادلاً وإرادة للتعايش السلمي. ولذلك، ستعترف السويد بدولة فلسطين". وأرسلت فرنسا إشارة في الاتجاه نفسه، لكنها فضلت أن ترفقها بمهله متراخية، ومن المحتمل أن تبادر دول أوروبية إلى خطوات مشابهة.

من دون الانتقاص من أهمية التوجه السويدي للاعتراف بدولة فلسطين، وإمكانية حذو حكومات أوروبية حذو الحكومة السويدية الجديدة، لا يعدو هذا التوجه، في مفاعيله العملية، خطوة رمزية معنوية، ليس فقط إذا ما أخذنا بالاعتبار قدرة تأثير السويد في القرار السياسي الأوروبي الغربي، إنما لأن مفهوم "حل الدولتين" إشكالي بحد ذاته، سواء في الأدبيات والبرامج السياسية الفلسطينية، أو في الرؤية الأوروبية وكذلك في الرؤية الإسرائيلية- الأميركية، لأسس تسوية سياسية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.

في أدبيات فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وبرامجها السياسية، يستخدم منذ سبعينيات القرن الماضي، مصطلح "دولة فلسطينية مستقلة" شرطاً لتسوية شاملة ومتوازنة، وليس نهائية، وعندما دخل مصطلح "حل الدولتين" في القاموس السياسي الفلسطيني، نهاية الثمانينيات، دار صراع مرير حوله، فقد رأى بعضهم فيه صيغة مطاطة، تفتح على إبداء استعداد ضمني لتنازل فلسطيني عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وحقوق الفلسطينيين داخل الخط الأخضر الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، فتتمة المصطلح كما يقدم في الخطاب الأوروبي الغربي، ولاحقاً الأميركي والإسرائيلي، "حل دولتين لشعبين"، بمعنى اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل كـ(دولة للشعب اليهودي)، في مقابل اعتراف إسرائيل بكيان فلسطيني على جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 تحدد مساحته من خلال المفاوضات.

وما زالت الأدبيات والبرامج السياسية الفلسطينية تتعامل، بحذر شديد، مع مصطلح "حل الدولتين"، باستثناء الرؤى الخاصة التي يعبر عنها رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، ودائرة صغيرة مقربة منه. وعلى الرغم من ذلك، رفض عباس، غير مرة، شرط حكومة نتنياهو بما تسميه "الاعتراف بالطابع اليهودي لدولة إسرائيل"، لما يرتبه مثل هكذا اعتراف من تبعات مدمرة على حقوق الفلسطينيين.

وتبرز إشكالية فهم مصطلح "حل الدولتين" في الخطابين السياسيين الرسميين، الأوروبي والأميركي، مع بقاء هامش ضيق من الفوارق بينهما، في ترجمة مفهوم هذا المصطلح، حسب رؤية دول الاتحاد الأوروبي، والتي تفترض أن "حل الدولتين" ممكن فقط من خلال "مفاوضات تدار على أساس حدود 67 مع تبادل للأراضي، تتحدد نسبته في المفاوضات الثنائية الفلسطينية-الإسرائيلية"، وتفضي إلى اعتراف متبادل بين ممثلي (دولتين لشعبين)، مع مراعاة ما ينتج عن ذلك من متطلباتٍ، تقتضي تنازل الفلسطينيين عن حقوق جوهرية، مثل حق العودة، والقبول بحل تفاوضي لملف القدس الشرقية، متروك لابتزاز حكومة الاحتلال الإسرائيلي وفرض الاستيطان أمراً واقعاً.

ومن الجدير، هنا، ذكر أمثلة سابقة على ضبابية مصطلح "حل الدولتين"، فعشية انتهاء المرحلة الانتقالية (4 مايو/أيار 1999)، تلقف تيار أوسلو الفلسطيني جملة وردت في رسالة الرئيس الأميركي، بيل كلينتون، إلى الرئيس الراحل، ياسر عرفات، (26 إبريل/نيسان 1999)، جاء فيها "نحن نؤيد تطلع الشعب الفلسطيني لتقرير مصيره على أرضه، وكما قلت في غزة، أنا أؤمن بأنه يحق  للفلسطينيين أن يعيشوا أحراراً اليوم وغداً وإلى الأبد"، ونظَّر بعضهم إلى أن رسالة كلينتون بمثابة (وعد بلفور للشعب الفلسطيني)، من دون أن يسألوا أنفسهم عن قيمة مثل هكذا موقف لفظي خال من أي تحديد أو التزام.

وفي خريف العام 2001، أقام فريق أوسلو الفلسطيني الدنيا ولم يقعدها، بحديثه عن تطور دراماتيكي هائل وغير مسبوق في الموقف الأميركي، أقدم عليه الرئيس جورج بوش الابن، في خطابين متتاليين، (حال الاتحاد 11/10/2001 والجمعية العامة للأمم المتحدة 9/11/2001)، بالقول: "إن قيام الدولة الفلسطينية كان دوماً جزءاً من الرؤية الأميركية، ما دام حق إسرائيل في الوجود محترماً.. ". إلى أن ترجم الموقف الأميركي باستبعاد إدارة بوش الابن ملف الصراع الفلسطيني والعربي- الإسرائيلي من أولوياتها، واكتفائها بإطلاق "خطة خارطة الطريق الدولية"، لتجردها، لاحقاً، في المسارات العملية من بعدها السياسي، وتحاصرها بالخطط الأمنية الملبية للشروط الإسرائيلية، (خطة الجنرال أنتوني زيني، وخطة الجنرال جورج تينت ..الخ).

ولم يتغير الفهم الأميركي في عهد الرئيس باراك أوباما، حيث أكد الأخير، منذ البداية في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر/أيلول 2009، أنه لا يمتلك رؤية خاصة وجديدة لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وسيعتمد على إعادة تسويق سلة من المبادرات السابقة، أهمها: خطة الأسبق بيل كلينتون التي أطلقها في مؤتمر كامب ديفيد 2، يوليو/تموز 2000، ومبادرة جنيف- البحر الميت، ديسمبر/كانون أول 2003، ومبادرة السلام العربية، مارس/آذار 2002. وتقصد أوباما عدم وضع أسس محددة بشكل قاطع، قد يفهم منها أنها بمثابة شروط مسبقة، أو جداول وسقوف زمنية ملزمة قطعياً، أو شراكة أميركية كاملة مع أطراف "اللجنة الرباعية الدولية" في رعاية العملية التفاوضية.

والإشكالية الأكبر في الفهمين الأوروبي والأميركي لـ(حل الدولتين) في بقائهما معلقتين على مقولة "مرجعية المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية هي المفاوضات بذاتها"، بما يضعها تحت سيف الشروط الإسرائيلية المتطرفة، فمقترح نتنياهو للتسوية، كما حدده في خطابه في جامعة بار إيلان - تل أبيب 14/6/2009، يقوم على سبعة عناصر رئيسية: اعتراف فلسطيني بإسرائيل كـ(دولة يهودية). حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين خارج حدود إسرائيل. دولة فلسطينية منزوعة السلاح ومن دون سيطرة في الأجواء البرية أو البحرية أو الحدود البرية، مع ترتيبات أمنية صلبة لدولة إسرائيل. القدس عاصمة إسرائيل الموحدة. مستوطنات القدس جزء من الأراضي الإسرائيلية. موضوع الأراضي يبحث في التسوية النهائية. عمق الانسحاب من الأرضي العربية والفلسطينية المحتلة يحدده مبدأ حاجة إسرائيل لحدود قابلة للدفاع عنها.

مرة أخرى؛ اعتراف السويد بدولة فلسطين مهم بلا شك، ويستحق التقدير. لكن، عن أي دولة نتحدث، وما شروط حصول الفلسطينيين عليها ربطاً بمصير اللاجئين القدس الشرقية والمستوطنات، وكيف سيتم تحديد حدودها؟

الإجابة الفلسطينية ناقصة، فالفريق الفلسطيني المفاوض مازال يرى في ملفات الحدود والسيادة واللاجئين والقدس والمستوطنات مواضيع تفاوضية، والمفاهيم الأوروبية الغربية والأميركية لـ(حل الدولتين) تنتقص، أيضاً، من قيمة الاعتراف بدولة فلسطين، فتتمة المصطلح (دولتين لشعبين) مع ما يحمله من محاذير الترجمة الإسرائيلية، التي لا ترى فيه سوى الاعتراف بـ(الطابع اليهودي لدولة إسرائيل)، مقابل كيان فلسطيني منقوص الأرض والسيادة والحقوق.

B21DA34E-F1C6-4033-B3A9-0A2E40C3E094
عامر راشد

كاتب فلسطيني. يعمل في الصحافة، اصدر كتاباً باللغة الروسية "القضية الفلسطينية تاريخ وحاضر"، وكتاباً بالعربية " فلسطين.. مائة عام بحثاً عن الحرية والعدالة"، وله دراسات وأبحاث منشورة عن الصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي، وقضايا فكرية.