إيضاحات شاهد عيان إلى علي العبدالله..الوصول إلى "صفقة القرن"

إيضاحات شاهد عيان إلى علي العبدالله ..الوصول إلى "صفقة القرن"

09 مارس 2020

عرفات والملك حسين وعبد الناصر والملك فيصل بالقاهرة (27/9/1970/Getty)

+ الخط -
أورد الكاتب السوري، علي العبدالله، في مقاله "في الوصول إلى صفقة القرن"، في "العربي الجديد" (5/2/2020)، في معرض تعليقه على قرار وزراء الخارجية العرب الصادر عن مجلس جامعة الدول العربية، رفض صفقة الرئيس الأميركي، ترامب، التي اشتهرت بصفقة القرن، "أن دولاً عربية أشادت بالجهود الأميركية، ودعت السلطة الفلسطينية إلى دراسة المبادرة". واستطرد: "لم يأت الموقف العربي الجديد فجأة، ومن دون مقدمات، فقد مهدت له مواقف وممارسات راكمت تحوّلات في المشهدين، السياسي والميداني، بدءاً من محاولات احتواء حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، والعمل على استتباعها وتدجينها بتحويلها إلى كيان من كيانات النظام الرسمي العربي". وأضاف: "وقد جاءت محاولات التدجين الأولى على أيدي النظام السوري عام 1966، عبر التخطيط للسيطرة على تصرفات الحركة وقراراتها وتسليحها". لينتهي إلى القول، وهنا بيت القصيد: "وتشكيل منظمات منافسة (الصاعقه السورية) و(جبهة التحرير العربية) العراقية، و(الهيئة العربية العاملة لتحرير فلسطين) المصرية، من أجل دفعها (أي فتح) في مسارات محدّدة، تنسجم مع سياسات الأنظمة العربية، واستمرار فرض اللعب بالقضية الفلسطينية، واستثمارها في التغطية على سياساتها وممارساتها ضد الشعوب العربية. وهذا جرى عام 1970، بضغط مصري، لدفعها إلى قبول المبادرة الأميركية المعروفة باسم مبادرة روجرز (وزير الخارجية الأميركي آنذاك) من النظام
المصري، قابلته ضغوط من نظامي "البعث" في سورية والعراق التي كانت تنافس الرئيس المصري جمال عبد الناصر على الزعامة العربية، ودعم النظام البعثي في العراق النظام الأردني في حربه على العمل الفدائي في أيلول الأسود عام 1970".
أؤكد، بدايةً، أمراً أساسياً، أن الإيضاحات في هذا الرد هي نتيجة مشاركة ومعايشة للأحداث التي جاء المقال على ذكرها، وليس القصد هو الدفاع عن أحد، ولا الهجوم على أحد، إنما الأمانة التاريخية تقتضي تصحيح معلومات وردت في المقال، ربما مستندة إلى معلومات صحافية غير دقيقة، وكذلك تصحيح بعض الوقائع، وإنصاف بعض الأسماء من دون تحامل على أحد. كما أنه ليس ثمّة قصد حزبي، أو انحياز سياسي، إلى هذا الطرف، أو ذاك. وبالمناسبة، أشكر الكاتب علي العبدالله، لأنه أتاح هذه الفرصة لإيضاح هذه المسائل، لأن كتابة التاريخ غالباً ما تتم وفق أهواء أو معلومات تضليلية.
أولاً: بشأن ما جاء عن دور نظام الرئيس جمال عبد الناصر، وتشكيل الهيئة العاملة لتحرير فلسطين، ومبادرة روجرز التي قبلها النظام المصري، ودفعه المنظمات الفلسطينية من أجل قبولها، كما ورد في المقال، فللأمانة، لم يدخل عبد الناصر ونظامه في سباق مع أنظمة عربية لتأسيس منظمة تابعة له، أو بالأحرى لنظامه، كما فعل النظامان في كل من سورية والعراق، فقد أسس هذه الهيئة عصام السرطاوي، وأقدم على حلها في عام 1972، والتحق بحركة فتح. كما أن الرئيس عبد الناصر قبل مبادرة روجرز كدولة، فلا يمكن أن تتجاهل مصر المبادرات الدبلوماسية ضمن المجتمع الدولي. وفي المقابل، لم يمارس ضغوطاً على المنظمات الفلسطينية من أجل قبول تلك المبادرة، وكانت خطته الحقيقية متابعة برنامجه في إعادة تأهيل الجيش المصري بعد هزيمة حزيران، لخوض معركة العبور والتحرير. وقد كان رفض المنظمات الفدائية في حينه متفاوتاً وغير موحد، فقد كان لحركة فتح، وزعيمها ياسر عرفات، موقف مختلف عن المنظمات الأخرى التي قادت حملة الرفض والهجوم على نظام عبد الناصر الذي 
كان يحظى بتأييد الشعب الفلسطيني وتقديره. وقد لمست ذلك، حيث كنت شاهداً على مناسبة دعت إليها المنظمات الرافضة مبادرة روجرز في مخيم البقعة (شمال عمّان)، حيث كان استفتاء من الشعب الفلسطيني في المخيم، ولم يأتِ للمشاركة ما يزيد على أصابع اليد (!).
ثانياً، في ما يتعلق بمواقف النظام السوري ومنظمة الصاعقة، لست في معرض التذكير بكل مواقف النظام من القضية الفلسطينية عموماً، ومن حركة فتح خصوصاً، وفيما بعد من منظمة التحرير الفلسطينية والرئيس عرفات، منذ اغتيال الضابط يوسف عرابي، واتهام عرفات، وإدخاله سجن المزة العسكري مع رفيقيه، اللذين التقيتهما في السجن عام 1966، أبو العبد، الذي استشهد في فلسطين، وزكريا يحيي، الذي أصبح مدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في قبرص.
المواقف المعادية من النظام السوري تجاه القضية الفلسطينية لا تعد ولا تحصى، خصوصاً في أثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في صيف 1982، ثم ملاحقة القيادة الفلسطينية، والرئيس ياسر عرفات، في مدينة طرابلس، وترحيلهم منها، على ظهر باخرة فرنسية، وحصار المدينة، والقصف الوحشي الذي تعرضت له المخيمات إثر ذلك. كما أن لهذا النظام، غير منظمته "الصاعقة"، دوراً أساسياً في إحداث الانقسامات داخل الجسم الفلسطيني المقاوم، وهو من أخطر الأدوار، ومن أهم العوامل التي مهدت الطريق إلى ما تسمى صفقة القرن؛ ناهيك عن تدمير مخيم اليرموك وتهجير السكان منه، مثلما جرى في مناطق سورية كثيرة.
ثالثاً، بشأن جبهة التحرير العربية وموقف النظام العراقي من القضية الفلسطينية، أوضح هنا وقائع كنت مطلعاً وشاهداً عليها؛لأنني كنت مشاركاً منذ اللحظات الأولى لولادة الجبهة، 
والمبررات التي دعت إلى إنشائها، كما عشت الأحداث حتى "أيلول الأسود" في 1970. وأعتز بأننا حاولنا، مع رفاق آخرين، أن نقدّم ما استطعنا من أجل القضية الفلسطينية، بعيداً عن العصبيات الحزبية الضيقة، أو المواقف المؤيدة لهذا النظام أو ذاك. وأذكر هنا المبرّرات التي دفعت القيادة إلى تأسيس جبهة التحرير العربية، وحماستنا لهذا القرار في حينه، منطلقين من ظروفٍ أملتها تلك المرحلة، وهذا مهم جداً لأنه عزل الموقف عن الظروف التي أحاطت بذلك الحدث، الذي غالباً يساء فهمه.
باختصارٍ شديد قد يخلّ بالتوضيح المطلوب (لا يتسع المقام لشرح كثير، وخصوصاً بعد مرور نصف قرن ونيف على تلك الأحداث)، كان الهدف الأساس من قيام الجبهة إعطاء بعد قومي للقضية الفلسطينية، وهي في نظرنا قضية قومية بامتياز، مثلما هي وطنية بالدرجة الأساسية. ولم يكن هذا الموقف منافسةً لأحد، ولا موجهاً ضد حركة فتح خصوصاً أو غيرها. ولكن في الوقت نفسه (وهذا تجدر ملاحظته حكماً)، لإعطاء أو إظهار تميز عن "الصاعقة"، ودور النظام في سورية، الذي نعرفه ولنا تجربة مريرة معه، لأنه استولى بقوة السلاح على حزب البعث واسمه وتراثه، واستخدم شعاراته وأفكاره للتشويه والتضليل، فلا يجوز أن ينفرد بالقضية الفلسطينية، ويعطي الفكرة المشوهة عن "البعث".
كانت التوجيهات التي حرصنا على تنفيذها، وعبر الممارسة، هي التعاون مع المنظمات 
الفلسطينية، وخصوصاً حركة فتح، والتفاعل الإيجابي معها، بصفتها العمود الفقري للمقاومة. وكان قادة بعثيون فلسطينيون قد التحقوا بـ"فتح"، من مثل فاروق القدومي، وكمال ناصر، ومحمد أبو ميزر، وآخرون مثل بهجت أبو غربية، الذي كان على رأس منظمة التحرير. وبالمناسبة، أول شهيد لحركة فتح في لبنان، جلال كعوش، من البعثيين المعروفين.
وكانت التوجيهات من القيادة واضحةً، وصريحة لا تقبل التأويل، تجاه النظام الأردني، حيث ليس لنا أي هدف أو غرض تجاهه قطعاً، لأنه أعطى المجال للعمل الفدائي، وكان (وهذا الأهم) للجيش الأردني موقف مشرّف في معركة الكرامة. والنقطة الأساسية والمفصلية في هذا الأمر، وجود حزب البعث في الأردن، ومنيف الرزاز كشخصية مرموقة ومعروفة ومرجعية وطنية؛ للرجوع إليه، خصوصاً في ما يتعلق بالجبهة والعمل الفدائي عموماً، والإشكالات التي يمكن أن تحدث مع النظام الأردني، وهذا بديهي، خصوصاً أنه كان هناك حرص شديد على إظهار الموقف المشار إليه، عدم استهداف النظام قطعاً، وأن المهمة الأساسية للجبهة، ومن النظام في العراق، تقديم العون والدعم للمقاومة، كما أن المسؤولية القومية تقتضي أن لا ندخل في صراعات أو اقتتال أو احتراب داخلي، لأن ذلك يستتبع خراباً وانقسامات وأحقاداً وضغائن ما بين أبناء الشعب الواحد. وقد تطورت الأحداث على الأرض 
بشكل دراماتيكي ومؤلم، خصوصاً مع تنوع المنظمات الفدائية وتعددها، ناهيك عن المواجهات والاحتكاكات التي كانت تحصل بين الفينة والأخرى مع الجيش الأردني، وأدت إلى الاقتتال والاحتراب.
وبشأن ما جاء في مقال علي العبدالله عن موقف النظام العراقي، سواء من حركة فتح، أو النظام الأردني تحديداً، تجدر الإشارة هنا إلى ما ورد في مذكرات الأمير زيد بن شاكر كما ترويها أرملته في صحيفة الشرق الأوسط (29/8/ 2019)، وقد ذكر العبدالله أن النظام البعثي في العراق دعم النظام الأردني في حربه على العمل الفدائي في أيلول الأسود عام 1970. وقد جاء حرفياً في مذكرات زيد بن شاكر: "في الحقيقة ومنذ البداية؛ كان رهان ياسر عرفات ومنظمة التحرير الحقيقي هو على الوعود السورية والعراقية بدعم عسكري حقيقي لإسقاط النظام، كما اعترف أبو إياد بحدوث اجتماع حضره ياسر عرفات بقيادات بارزة في حزب البعث والنظام العراقي، هم عبد الخالق السامرائي وزيد حيدر ومهدي عماش، وكان حينها وزيراً للداخلية؛ وفي ذاك الاجتماع قال لهم الوفد العراقي: نظموا محاولة انقلاب عسكري في الأردن، وستدعمكم الوحدات العراقية لقلب النظام، وهو العرض الذي لم يرفضه عرفات، لكنه طلب وقتاً لطرحه…).
والحقيقة التي أعرفها، والواقع الذي عشته، يناقض ما جاء به العبدالله، وحكماً ما جاء في مذكرات الأمير زيد أيضاً، لأن التناقض واضح ما بين الرأي والرواية، ولا يحتاج إلى المزيد. وفي الواقع، منذ الأيام الأولى لجبهة التحرير العربية مع أول أمين عام لها، زيد حيدر في عام 1969، وبتنسيق كامل مع منيف الرزاز، لم يتم التفكير، في أية لحظة، في نية التآمر على النظام في الأردن، ولم يتخذ النظام البعثي في العراق أي موقف أو عمل أو تصرّف من شأنه أن يدعم النظام الأردني ضد المنظمات الفدائية.
وللأمانة والإنصاف، عندما قاربت المواجهات على نهايتها، توجهنا إلى السفارة العراقية في
عمّان، وانتقلنا، مع البعثة الطبية للهلال الأحمر العراقي، من عمّان إلى المفرق، حيث القوات العراقية، والتي كان يقودها حسن النقيب، حيث وجدنا عضو القيادة العراقية، عبد الخالق السامرائي، ووصل بعد قليل حردان التكريتي الذي كان وزيراً للدفاع، واجتمع فوراً مع العسكريين. وقال لنا في حينه بالحرف عبد الخالق السامرائي: "حاولنا بكل الوسائل الممكنة مع كل الأطراف، من أجل وقف الاقتتال وعجزنا عن الوصول إلى ذلك. والآن، الموقف يقرّره العسكريون بالنسبة إلى القوات الموجودة في المفرق، وأردت أن أكون قريباً من الوضع في الأردن للاطلاع من كثب على ما يجري. ولسوء الحظ، لم نستطع تقديم الكثير، حيث تجاوزت الأمور وتخطت أية إمكانية لمنع الاقتتال أو إيقافه"... وتقرر فيما بعد الذهاب إلى بغداد بمروحية عسكرية، وفور وصولنا، قابلنا الرئيس أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش، وصدام حسين (لم يكن حينها نائباً للرئيس)، وقد شرح كل واحد منا الموقف، من دون زيادة، أو نقصان. وكان التأثر والألم باديين على الجميع، وقدّم عبد الخالق السامرائي ما حصل معه عبر الاتصالات والمحاولات التي بادر إليها.
يعطي هذا العرض السريع فكرة للقارئ، ولو مختصرة، عن بعض ما جرى في تلك المرحلة المؤلمة، التي تخللتها مواقف كثيرة طواها النسيان. ويعتقد كاتب هذه المقالة جازماً بأن "صفقة القرن" المشؤومة هي نتيجة أحداث ومواقف تراكمت، بحيث أصبح سهلاً طرحها في هذه الظروف والأوضاع المزرية التي وصلت إليها الأمة العربية. ولا يختلف اثنان على أن إخراج مصر وتهميشها أحدثا زلزالاً وفراغاً في الوضع العربي، وخطراً على الأمن القومي العربي، كما أن الانقسام الفلسطيني واستمراره، والعمل على تأجيجه يبقى عاملاً أساسياً في شل قدرات الشعب الفلسطيني على المقاومة والمواجهة. ولا يمكن تجاهل الدور الأساسي الذي لعبته إيران، خصوصاً بعد غزو الولايات المتحدة العراق واحتلاله، وتقديمه على طبق من ذهب إلى نظام الملالي، والنتائج الكارثية التي حلت بالعراق وهمشته، كما هو الدور الإيراني في سورية، والاحتلالات التي حوّلتها إلى بلد ممزّق ودولة فاشلة. وقد استهدف هذا الدور (الإيراني) النسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية في البلدين، ما يشكل مقدمة طبيعية للصفقة المذكورة.
وفي الوسع أن يقال إن ثورتي الشباب في العراق وفي لبنان تحييان الأمل في عودة الروح الى الأمة العربية، والأمل ينبع من قلب اليائس، وإيماني بشعبنا في سورية، وكذلك في لبنان، وحكماً في العراق العظيم، لا يمكن أن يتزعزع، وستبقى ما تسمى صفقة العصر كلاماً على ورق أمام إرادة الشعوب. وشكراً للكاتب علي العبدالله لأنه أفسح المجال لي لإيضاح بعض الحقائق.
C936444E-F858-4D23-A07B-5CC6D5DC44F4
C936444E-F858-4D23-A07B-5CC6D5DC44F4
ناصر سابا

مستشار قانوني سوري مقيم في باريس، دكتوراة من جامعة السوربون

ناصر سابا